للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذَهبَ ابنُ القَيِّمِ (١) رَحِمَهُ اللهُ إلى جَوابٍ آخَرَ وقالَ: "إنَّ الاحتِجاجَ بالقَدَر على المَعصيةِ بعدَ التَّوبَةِ منها والإقْلاعِ عنها مَقبولٌ، لا لرَفْعِ اللَّومِ واستِباحَةِ الاستِمرارِ"، فيقولُ: الِاحتجاجُ بالقَدَر نَوعانِ: نَوعٌ احْتجاجٌ بالقَدَرِ بَعدَ فَواتِ الأَوانِ مَع الإقْلاعِ عنِ المَعصيَةِ وحُسْنِ الحالِ فَهَذا جائِزٌ، واحْتِجاجٌ بالقَدَر لِدَفعِ اللَّومِ والاستِمرارِ في المَعصيَةِ، فهذا مَمنوعٌ. يَعني: إذا قَدَّرْنا أَنَّ احتجاجَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بالقَدَرِ على المَعصيَةِ الَّتي تابَ مِنها وهَداه اللهُ واجْتَباه يَكونُ جائِزًا على هذا التَّقديرِ؛ لِأنَّ آدَمَ ما احْتجَّ بذَلكَ لِيَستمِرَّ، احتجَّ بذلك لِأمرٍ قَد فاتَ.

ونَظيرُ هَذا فيما عِندَنا الآنَ لَوْ أنَّ إِنسانًا زَنَى -وَالعياذُ بِاللهِ- وَهو رَجلُ خَيّر، لَكِنْ غَلَبَتْه شَهْوَتُه وزَنَى ثُمَّ تابَ، وقُلْنا لَهُ: يَا فُلانُ، كَيفَ يَقَعُ مِنك هذا الشَّيءُ؟ قَال: واللهِ هذا قَضاءٌ وقَدَرٌ، وإِلَّا فَلَستُ من أَهلِ هَذا الأمرِ لكنَّ المُقَدَّرَ كائنٌ، نَقْبلُ مِنه، لَكنْ لَو كانَ يَزني وَيستمِرُّ نَقولُ: تُبْ إلى اللهِ، فَإنْ قالَ: هذا رَغْم عنه؟ قُلْنا: سُبحانَ اللهِ رغمًا عنك وأنت مُمارِسٌ لهِذا العَملِ، لَيسَ هذا رغمًا عنك.

يَقولُ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: "الِاحتجاجُ بالقَدَرِ بَعدَ وقوعِهِ تَسليمًا للقَدَرِ وَتَفويضًا لِأمْرِ اللهِ، لا اسْتِمرارًا ولَا دَفعًا لِلَّومِ" فهَذا جائِزٌ، ثُمَّ استدَلَّ بقِصَّةٍ وَقَعَتْ مِن عَليِّ بنِ أَبي طالِبٍ وزَوْجِه فاطمَةَ - رضي الله عنها - حينَ دَخَلَ عَليهما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لَهُما: "أَلا تُصلِّيانِ؟ " قال عَليٌّ: يا رَسولَ اللهِ، أنفُسُنا بِيَدِ اللهِ لَو شَاءَ لَأَقامنا، احْتجَّ بالقَدَرِ، فَخَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أو تَوَلَّى عنهما وهو يَضرِبُ بيَدِه على فَخِذِه ويَقولُ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (٢)، فَالرَّسولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَل قَبِلَ مِنهما؟ إنْ قُلْتم: قَبِلَ على


(١) انظر: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر (ص ١٨).
(٢) أخرجه البخاري: كتاب التهجد، باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الليل، رقم (١١٢٧)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، رقم (٧٧٥)، من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>