للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا يُمكنُ إِطْلاقًا وهو أَجَلُّ قَدْرًا من أن يَحتجَّ بالقَدَرِ على مَعصيَةِ اللهِ، وإنَّمَا احْتجَّ بالقَدَرِ على إِخراجِهِ منَ الجنَّةِ لا على سببِ الإِخراجِ، والِاحتجاجُ بالقَدَرِ على المَصائبِ أَمْرٌ جائِزٌ، وهو غَايةُ التَّسليمِ لله - عَزَّ وَجَلَّ -. أَرَأيتُم قولَ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "المُؤمنُ القَويُّ خَيرٌ وأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمنِ الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ واسْتعِنْ باللهِ ولا تَعجَزْ، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تَقُلْ: لو أَنّي فعلتُ لكانَ كَذا وكَذا، ولكنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَما شاءَ فَعَلَ" (١). وهذا احْتِجاجٌ بالقَدَرِ لكنْ بعدَ فِعْلِ الأسبابِ، فالاحتِجاجُ بالقَدَرِ على المَصائبِ أَمْرٌ جائِزٌ، والإنسانُ عِندما يُصابُ بالمُصيبَةِ وَيقولُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: ١٥٦]، فهَذَا يَعني: التَّسليمَ للقَدَرِ.

إذنِ احْتِجاجُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بالقَدَرِ على المُصيبَةِ لا عَلَى المَعصيةِ، هذا وَجهٌ.

وجهٌ آخَرُ: ما كانَ لموسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أن يَلومَ أَباه على ذَنبٍ تابَ منه وحَصلَ له بَعدَه أَنِ اجْتَباه رَبُّه وهداه، أدنى وَاحدٍ منَ النَّاسِ إذا أُصيبَ بذَنبٍ ثُمَّ تابَ، فإنَّه لنْ يُوَجِّهَ اللَّومَ إليه، قال اللهُ تَعالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [طه: ١٢١ - ١٢٢]، أَي: اصْطَفاه واختارَه {وَهَدَى} [طه: ١٢٢]، هذ المَنزِلَةُ ما حَصَّلَها قَبْل أن تَحْصُلَ له المعصيَةُ.

إذن لا يُمْكِنُ لموسَى أن يَلومَ أَباه على ذَنبٍ تابَ مِنه وارْتَفَعَ بعد التَّوبةِ منه مَنزلةً عِندَ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، هذا لا يُمْكنُ أن يَكونَ لأدنَى وَاحدٍ فَضلًا عن رَجُل مِن أُولِي العَزمِ مِنَ الرُّسلِ، هذا جَوابُ شيخِ الإِسلامِ ابْنِ تَيميَّةَ وهُو جَوابٌ جيِّدٌ لَا شكَّ.


(١) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، رقم (٢٦٦٤)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>