للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الحُجَّةَ لا تَقومُ حَتَّى يَفهمَ الإنسانُ مَعْنى هَذهِ الحُجَّةِ، وأَنَّ مُجرَّدَ البَلاغِ لا يُعَدُّ حُجَّةً قائمةً حتَّى يَفهَمَها مَن بلُغتِه؛ لِأنَّك لَو أَلقَيْتَ كَلامًا عَربيًّا بِأَفصحِ ما يَكونُ عَلى قَومٍ عَجَمٍ، وهُمْ لا يَعرفونَ مَقصودَكَ أَصلًا فَلا يَفهمونَ شَيئًا، وكَذَلكَ بِالعَكسِ لَو جاء رَجلٌ أَعجميٌّ وقامَ يَتكلَّمُ بِأَفصحِ ما يَكونُ من لُغةِ العَجمِ ونَحنُ لا نَعرفُ مُرادَه لَمْ نَفهمْ مِنه شيئًا؛ ولِهَذا قَالَ تَعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: ٤].

فَإِنْ قَالَ قائلٌ: يَرِدُ عَلى قَولِكم هَذا - وَهو أَنَّه لا بُدَّ مِن فَهْمِ الحُجَّةِ بَعد بُلوغِها - قَولُه تَعالَى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: ١٩] ولَمْ يَقُلْ: ومَنْ بَلَّغ وفَهِمَ.

قُلنا: هَذا مُطلَقٌ، لكنَّ الآياتِ الأُخرَى تُقيِّدُه أَنَّه لا بدَّ مِن البيانِ والمَعرفةِ، وكَذَلكَ لَو قَالَ قائلٌ: يَرِدُ عَلى قَولِكم هَذا قَولُ النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وعَلى آلِه وسلَّم -: "وَالَّذي نَفْسي بيَدِه لا يَسمَعُ بي أَحدٌ من هَذِهِ الأُمَّةِ؛ يَهوديٌّ ولا نَصرانيٌّ، ثُمَّ لا يُؤمنُ بِما جِئتُ بِه إِلَّا كانَ مِنْ أَصحابِ النَّارِ" (١)، قال: "لا يَسمعُ بي"، فَيُقالُ: لأنَّه إِذا سَمِعَ به يَجِبُ عليهِ أَنْ يَبحثَ حتَّى وإِنْ كانَ لا يَفهمُ يَجِبُ عَليه أَنْ يَبحثَ، أَمَّا أَنْ يَترُكَ الأمرَ فَهو لا يُعذَرُ لِتَفريطِه وتَهاونِه، وعَلى هَذا فَلا بدَّ مِنْ بُلوغِ الحُجَّةِ وَلا بدَّ من فَهمِها.

وإِنْ قال قائِلٌ: فَكَيف الجَوابُ عَن قَولِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: ٧]؟


(١) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، رقم (٣٣٤٨)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار، رقم (٢٢٢)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>