للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والرَّيبُ أَخصُّ مِن مُطلَقِ الشَّكِّ إِذْ إِنَّ فيه قلقًا مَع ريبةٍ، وذَلكَ لِأنَّ الأمرَ المشكوكَ فيه إمَّا أَلَّا يَكونَ ذا أَهمِّيَّةٍ فتَجدُ الشَّاكَّ فيه يَقولُ: ما يَهُمُّنِي ثَبتَ أَم لَم يَثْبُتْ، وإِمَّا أَنْ يَكونَ ذا أَهمِّيَّةٍ فحينئِذٍ إِذا شَكَّ فيه سيكونُ في قَلقٍ أَيُؤمنُ بِهذا أَمْ يُنكرُ؛ لِأنَّهُ أَمرٌ هامٌّ، فَالغالبُ أَنَّ الرِّيبةَ لا تَأتي إِلَّا في الأُمورِ الهامَّةِ، وأَمَّا الشَّكُّ الَّذي يُشَكُّ هَلْ فُلانٌ قَدِمَ أو ما قَدِمَ، وليس له أَهمِّيَّةٌ في قُدومِه أو غيابِه، فَهذا لَا يوجبُ الرِّيبةَ.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الإيمانَ يَجِبُ أَلَّا يُخالطَه شَكٌّ، وأنَّه إِذا وَرَدَ عَلَى القَلبِ شَكٌّ ولَو يَسيرًا بِشَرطِ أَلَّا يُدافعَه بَل يَركنُ إِليه، فَإنَّ هذا مُحبِطٌ لِإيمانِه، أَمَّا لَو وَرَدَ الشَّكُّ عَلى القَلبِ وطَردَه وجاهَدَ نَفسَه عَلى دَفعِه، فَهذا لا يَضُرُّه شيئًا، ولهِذا أَخبرَ النَّبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - "أَنَّ النَّاسَ يَتساءلونَ مَنْ خَلَقَ كذا مَنْ خَلَقَ كذا؟ حتَّى يَقولوا: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟ " وهذا شَكٌّ ولَكنَّ الرَّسولَ أَخبرَ قَالَ: "فَإذا بَلَغَ أحدُكم ذَلكَ - أو كَلمةً نَحوها - فَليَستَعِذْ بِاللهِ ولْيَنْتَهِ" (١)، وأخبرَه الصَّحابةُ أنَّهم يَجِدون في نُفوسِهمْ مَا يُحبُّونَ أَنْ يَكونوا حِممًا -أي: فَحْمةً مُحتَرِقَةً - ولَا يَنطقونَ بِه، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ صَريحُ الإِيمانِ" (٢).

فالحاصِلُ: أَنَّ الشَّكَّ الواردَ عَلى القَلبِ إِنِ اطْمأنَّ بِه الإِنسانُ ورَكَنَ إِليه، فَلْيَعلمْ أَنَّه ليس بِمؤمنٍ؛ لأنَّ الإِيمانَ يُنافيه شيئانِ: الشَّكُّ، والإِنكارُ. أمَّا إِذا وَرَدَ عَلى القلبِ وطارَدَه وجاهَدَ نَفسَه عَلى تَرْكِه، فَفي هَذه الحالِ لا يَضُرُّه، بَلْ هذا صَريحُ الإيمانِ وخالصُ الإِيمانِ، وذَلكَ أنَّ الشَّيطانَ لا يورِدُ مِثلَ هذِه الأُمورِ عَلى قَلبِ مَيِّتٍ،


(١) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، رقم (٣٢٧٦)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، رقم (١٣٤)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(٢) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان، رقم (١٣٢)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <   >  >>