للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الثَّاني: ما دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه عامٌّ كَقَولِه تَعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} وهَذا خطابٌ للرَّسولِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: ١] هَذا عامٌّ؛ لأنَّه قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} وَمِنه قَولُ اللهِ تَعالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: ١ - ٢] فأَوَّلُ الآيةِ خاصٌّ والثَّاني عامٌّ.

الثَّالثُ: ما لا دَليلَ فيه عَلى هَذا ولا عَلى هَذا، فَهو خَاصٌّ بالرَّسولِ، لَكن لَنا فيه أُسوَةٌ، وقيلَ: إنَّه للأُمَّةِ لكن خوطِبَ بِها الرَّسولُ؛ لأنَّه قائدُها - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.

يَقولُ المفسِّرُ - رَحِمَهُ اللهُ -: [{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: بذي ظلم] إِشارَةٌ مِنه - رَحِمَهُ اللهُ - إِلى أنَّ "ظَلَّامَ" صيغةُ نِسبةٍ وليست صيغةَ مُبالغةٍ؛ لأنَّ فعَّالًا تأتي للنِّسبةِ كنَجَّار وحدَّاد وخشَّاب، وما أَشبهَ ذَلكَ، وتأتي للمُبالَغةِ، فَهُنا (ظَلَّامٌ) يَتعيَّنُ أَنْ تكونَ للنِّسبةِ؛ لأنَّك لو جَعلتَها لِلمبالغةِ لكان المَنفيُّ هو المُبالغةُ في الظُّلمِ دونَ أَصلِ الظُّلمِ؛ وَالمعلومُ أَنَّ اللهَ تَعالَى مَنفيٌّ عَنه الظُّلمُ أَصلُه والمُبالغةُ فيه، إِذن يَتعيَّنُ أَنْ نَقولَ: إِنَّ (ظَلَّام) صيغةُ نِسبةٍ ولَيست صيغةَ مُبالغةٍ؛ ولهذا فَسَّرها بِقولِه: [أي: بذي ظُلمٍ] واستَدلَّ لِذلكَ بِقَولِه تَعالى: [{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: ٤٠]. وَمَنِ انتَفى عَنه الظُّلمُ في مِثقالِ ذرَّةٍ لا يُمكنُ أَنْ يَكونَ لَديه ظُلمٌ بأَكثرَ، وَلا بِمثقالِ ذرَّةٍ أيضًا، وَلا بِدونِ مِثقالِ ذرَّةٍ.

فَإِن قَالَ قائلٌ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مَفهومُه أَنَّ ما دونها يُمكنُ؟

قُلنا: لا؛ لأنَّ مِثقالَ ذَرَّةٍ جِيءَ به على سَبيلِ المُبالغةِ لا التَّمثيلِ، وَما كانَ قَيدًا لِلمبالغةِ، فإنَّه لا مَفهومَ لَه، أَرَأَيتُم قَولَ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقتطعَ شِبرًا مِنَ الأَرضِ ظُلمًا طُوِّقَه يَومَ القيامَةِ مِنْ سَبعِ أَرَضينَ" (١)، فهَل نَقولُ: مَنِ اقْتطعَ نِصفَ شِبرٍ لا يُعاقَبُ


(١) أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (٢٤٥٣)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض، رقم (١٦١٢/ ١٤٢) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

<<  <   >  >>