بهذا المعنى وجبت طاعة من تملكه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا مما ملكه الله تعالى بأي اسم دعي، فقيل له: خليفة وأميرًا وقاضيًا أو مصدقًا، أو من كان وأي واحد من هؤلاء وجب طاعته كان عامله ومن تملكه شيئًا مما يملكه مثله لقيام كل واحد من هؤلاء فيما صار إليه من الأمر منزلة الذي فوقه إلى أن ينتهي الأمر إلى من له الخلق والأمر، وليس فوقه أحد، وهو الله رب العالمين. وفي هذه حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما إذا توفاه الله تعالى إلى كرامته من غير نص على إقامة أحد من بعده فوجب على أهل النظر من أمته أن ينتخبون إمامًا يقوم فيهم مقامه، وبمعنى فيهم إحكامه لأن منزلتهم جميعًا إذا مات عن غير خليفة له فيهم كمنزلة من ناب داره عنه في حياته، فلما كانت سنة في أهل البلاد القاضية أيام حياته أن يؤمر عليهم أميرًا وينفذ إليهم قاضيًا، دل على أن خلق الجماعة بعد وفاته لا عن أحد استخلفه عليهم، أن يكون لهم فيما بينهم من يقوم مقامه، وينفذ أحكامه.
فإن قيل: أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمر للأمر في حياته، فإذا مات من غير تأمير، فمن الذي يؤمر؟ ولو كان لأحد أن يؤمر بعد موته لكان ذلك التؤمر بنفسه أميرًا، ويستغني عن تأمير غيره، فإذا لم يكن بعده واحدًا منهم مالك أمر، فكيف يكون له أن يؤمر غيره.
والجواب: أن على جماعة المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة، وكلمتهم متفقة وأن تكون أحكام الله جارية بينهم، وحدوده مقامة فيهم، وجهاد أعدائه موجودًا منهم، وهم من ذلك مجبولون على اختلاف الآراء والهمم. فإن تخلوا عن إمام يضمهم ويقوم عليهم لم يكد يصف بعضهم بعضًا، ولم يؤمن أن يكسلوا عن إقامة الصلوات في الجماعات ويستحبوا بالزكوات ويقعدوا عن الجهاد، ويعطلوا الحدود، فيكثر الفساد وتشيع الفواحش، وإذا كان فيما بينهم إمام قد يقبلوا طاعته قام عليهم وساسهم ودبر أمرهم واستوفى منهم حقوق الله تعالى، وأقام عليهم حدوده، ونفذ فيهم أحكامه وأمرهم فأطاعوه ودعاهم إلى ما فيه صلاحهم فأجابوه. فصح أن بهم الإمام أشد الحاجة، إذ كان لا يتهيأ لهم أن يحفظوا دين الله فلا تصنيع شريعته ولا تدرس إلا به. وإذا صار الإمام لما وصفناه من حقهم لم يجز أن يكون يدبر حقوقهم، خارجًا من بينهم، لأنه إذا خرج من بينهم فليس وراءهم إلا أضدادهم، ولا يجوز أن يكون تدبر حقهم إلى أضدادهم فثبت بذلك أن اختيار الإمام ونصبه إليهم، إذا لم يكن فيهم رسول من الله تعالى يتولى أمرهم يعلم فوق علمهم بنظر