فوصف جل ثناؤه نفسه بالقسط وهو العدل، وأمر عباده به، ووصاهم فيما يتعاملون به بملازمته وبالانتهاء إلى ما يوجبه العدل الموضوعة بينهم من المكيال والميزان فثبت بهذا كله أن العدل بين الناس في الأحكام وعامة المعاملات من فرائض الدين.
فأما ما اتصل منه بغير الحكم، والناس كلهم مأمورون بأن يتصف بعضهم بعضًا من نفسه، فلا الطالب بطلب ما ليس له، ولا المطلوب تبع بما عليه بعد أن يكون قادرًا على أن يعفوه. وأما ما اتصل منه بالحاكم، فجملته أن الحاكم ينبغي أن لا يتبع هواه ولا يتعدى الحق إلى ما سواه، كما قال عز وجل لداود عليه السلام:{يا داود، إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}. فإن الحاكم ليس رجلًا خص من بين الناس، فقيل له احكم بما شئت، فإن هذا لم يكن لملك مقرب ولا نبي مرسل. فإنما اؤتمن على حكم الله تعالى ليفصل بين عباده به، ويحمل المختلفين عليه، فكل ما قاله بين الخصمين بما ليس بحكم الله فهو مردود عليه، وهو فيه أسوأ حالًا ممن قاله وهو غير حاكم. لأنه اؤتمن فخان، وكذب على الله جل ثناؤه واختيان الأمانة نفاق والكذب على الله شقاق، والله عز وجل يقول:{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم}. ويقول يوم القيامة:{ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين}.
وينبغي للإمام أن لا يولي الحكم بين الناس إلا من جمع العلم السكينة والتثبت، وإلى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلًا أمينًا نزهًا عن المطاعم الدنية، وربما عن المطاعم الردية، شديدًا قويًا في ذات الله، متيقظًا متحققًا من سخط الله، أمينًا بالتمكين، الجوار ما لا يهاب، ولا المتعظم الجبار فلا ينتاب، لكن وسطًا خيارًا، ولا يدع الأمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته، والتصرف بحاله وطريقته. ويقابل منه بحب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير، ويرزقه من بيت المال إن لم يجد من يعمل بغير رزق ما يعلم أنه يكفيه ولا تقصير به عن كفايته، فيتطلع إلى أموال الناس، ويشتغل عن أمورهم بطرف من الاكتساب يجبر به ما نقصه الإمام. ويحتل بذلك منه، بما إليه القيام،