ينظر في حال نفسه ويتكعر في أنه وجوده على أي وجه كان أو يقسم ذلك ثوابه وفهمه ثم يستدل على الصواب منها بالدلائل الواضحة اللائحة بالحق المستنير بالصدق، وإذ كان ذلك واجبا عليه فأغفله وأعرض عنه كان حكمه حكم المعرض عن الدعوة بعد أن بلغته والله اعلم.
وأما من لا يرى هذا الرأي فإنه يقول: العقل وإن كان طريقا إلى المعرفة، فينبغي أن يأتي الأمر بالاستدلال فيلزم، أو يرد الأمر بالإيمان فيجب. وإنما إمكان معرفة الله تعالى بالعقل كإمكان معرفة ما وعد الله به، وإمكان سائر الأعمال التي تصلح لها الأعضاء والجوارح، وإذا كان شيء من ذلك لا يلزم إلا بأمر، فكذلك هذه المعرفة. وإذا كان كذلك- وقد أخبر الله تعالى:{أنه لا يرضى لعباده الكفر} - صح أن لا يؤخر عنهم الأمر بالإيمان، فلا يمكن إذا وجود من تبلغهم الدعوة إلى الإيمان، ولا معنى لوضع هذه المسألة فيه، والبحث أنه كافر أو مؤمن، والله أعلم.
فصل
وأما من كان منهم متمسكا بدين مستقيم كان حقا في وقت لم يبلغه الخبر عن غيره فهو مسلم، لأنه لا يصير محجوجا بغيره ما لم يبلغه خبره. ألا ترى أن أهل قباء لم تلزمهم الحجة بتحويل القبلة إلى الكعبة ما لم يبلغهم الخبر، ولذلك استداروا فبنوا ولم يستأنفوا، وقد قال الله عز وجل:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. بمعنى الرسول للتبليغ، فمن "لم" تبلغه دعوة الرسل فكمن لم يرسل إليه.
ألا ترى أن الرسول إذا أوحي إليه وهو في بيته لم يصد قومه محجوجين بما أنزل عليه قبل أن يبلغهم، فكذلك البعداء منه هذا حكمهم. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أنن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، وكان إذا بعث سرية يقول لأميرهم: إذا لقيت العدو فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله. فلما لم يأمر بالقتال إلا بعد الدعوة فلمنا أن الحجة لا تلزم من لم يسمع الدعوة إلا بأن