يتفاوتون في البصر تفاوتا بعيدا. وقد كانت زرقاء اليمامة تدرك الشيء من مسيرة ثلاث، وقصتها في ذلك مشهورة. فلا ينكر أن تفاوت بين النبي وبين غيره بإذكاء بصره حالا ووقتا ليدرك به ما يفوض له مما يراد توفيقه عليه، ويكون معنى قوله:"زويت لي الأرض" على هذا أي قربت علي إدراك مشارقها ومغاربها، فكانت من إحاطة بصره بي لها كأنها حاضرة إياه والله أعلم.
ومنها إذكاء سمعه: حتى يسمع مالا يقدر غيره على سماعه لبعد المسابقة بينه وبينه، كما روي على نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أطت السماء وحق لها أن تئط، ما منها موضع قدم إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى"، وروي عنه أنه سمع وحيه فذكر أنها هوى بصخرة قذفت في جهنم لم تبلغ قعرها إلى الآن، ولا سبيل للملحدين إلى استبعاد هذا واستنكاره، فإنهم يدعون لفيثاغورس أنه كان يسمع أصوات الكواكب والأفلاك إذا تحركت، وأنه الف الحانه عليها، وهم عندنا في ذلك كاذبون إلا أن يثبت أن فيثاغورس كان نبيا، فيجوز أن يكون اسمع ما ليس في العبادات إمكان إسماعه وتأليفه الألحان عليها أنه يصدقه.
ومنها إحضار النبي: مشاهد لا يبلغ فوق البشر أن يبلغها، كالعروج بنبينا صلى الله عليه وسلم، ورفع موسى حيا إلى السماء في قول أكثر المسلمين. ورفع إدريس والياس على ما وردت به الأخبار. وهذا إنما يدخل في باب الإعلام لنبينا صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه عرج به إلى السماء ليشاهد فيها من الآيات الباهرة للعقول ما لم يكن يشاهد مثلها في الأرض، وليوصي به فرض الصلاة، فيرجع به إلى أمته. فأما عيسى عليه السلام وإدريس، فإنما رفع للإسكان، وإخراجهما من بين أهل الأرض لتعليم شيء لم يكونا علماه من قبل والله أعلم.
ومنها إذكاء شمه كما فعله بإسرائيل صلوات الله عليه بأن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه، وفصلت العير من مصر، قال أبوه:{إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون}.