الناس تمييزا وأصحهم إدراكا في كل ما يلقى إليه، وأثبتهم فصلا فيما هو عنده الخطاب والتكليف، ولولاه لم يكن بين الناس وبين البهائم فرق، ول لهم عليها فضل، فإنه إنما يبلغ عن الله يلقى عنه ويتلقى عنه بحسب ما يؤول فيه من قوة الإدراك والقبول.
فإذا لم تكن تلك القوة في نهاية الشدة، ثم أنضاف إلى ذلك خروج للأمر فيما يلقى الله من العرف والعادة، واقتربت به الهيبة والخشية حتى يقيد لهما أحواله في تلك الوقت عيانا، عما كانت تكون عليه في سائر الأوقات عسر عليه ضبط ما يلقى إليه وتثبته على وجهه وحقيقته، فيثبت بما وصفنا أن عقول الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين أكمل العقول وآراءهم أشد الآراء، ولذلك يكملون لقبول الوحي أولا، وتبليغه ثانيا والله أعلم.
ومنها تقوية حفظه وذكره حتى يسمع السور التي لم يسمعها، ولا كلاما مثلها منظوما ينظم خارج عن نظوم كلام الناس، من الملك مرة واحدة فيعيها طويلة كانت أو قصيرة ويحويها قلبه ولا ينس منها حرفا حتى يبلغها الناس كما أخذها من الملك.
ومنها أن يعصم من الزلل في رأيه، فإذا اجتهد في الحوادث رأيه لم يخطئ، ولم يحلم إلا بالصواب والحق.
ومنها إذكاء فهمه حتى يتسع لضروب من الاستنباط بما أوحي إليه لا يبلغها فهم من دونه، وحقيق أن يكون كذلك. وأن العلماء من أمته متفاضلون، فمنهم من يدرك بفهمه ما لا يدركه فهم غيره وان فهمه، فالنبي الذي هو أعلم العلماء أولى بان يفضل أمته فيكمل من الاستنباط لما يقصر عنه غيره. وقال بعض العلماء: أن عامة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعة إلى القرآن. ومعلوم أنه ليس كل شيء منها تقف العلماء على أصله، فذلك إذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يدرك من معاني الوحي مما لا يبلغه فهم غيره فيحسب ذلك كأن يكون استنباطه والله أعلم.
ومنها إذكاء بصره حتى يدرك الشيء النائي الذي لا يقوى بصره في كل وقت، ولا يصر غيره على إدراك ما بعد ذلك البعد ولا ما دونه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربه وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها. ومعلوم أن البصراء