القرآن إلا الإنس والجن، فما الذي أحال أن يقدر على القرآن، ولا تقدر عليه الإنس ولا الجن.
هذا وقد جعل الله هذا، وقد جعل الله تعالى فعلاً من أفعال الملائكة علماً يصدق نبي من الأنبياء، وهو الذي أخبر قومه بأن الله بعث لكم طالوت ملكاً، فلما قالوا:{أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال}. قال:{إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة}.
فجعل الله عز وجل حمل الملائكة ذلك التابوت المأنوس لبني إٍسرائيل من الوصول إليه، إنه لصدق النبي الذي أخبرهم أن الله تعالى ملك عليهم طالوت، فلا ينكر أن يجعل الله إلقاء جبريل بالقرآن إلى نبينا صلوات الله عليه دلالة على صدقه، وإن جبريل هو الذي تولى وضعه ونظمه.
فالجواب: إن الله عز وجل لم يقصر التعجيز عن الإتيان بمثل القرآن على الإنس والجن لأن الملائكة تقدر على الإتيان بمثله، ولكن لأن الرسالة كانت إلى الإنس والجن فوقع التحدي للفريقين حتى إذا عجزوا كان عجزهم دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم عاجز مثلهم فيظهر بذلك أنه لم يأت بالقرآن من عند نفسه وإنما أتى به من عند الله.
فأما الملائكة فلم يتحدوا عن ذلك، لأن الرسالة إذا لم تكن إليهم لم يكن القرآن حجة عليهم فنبئوا أكانوا قادرين على مثله أو عاجزين، وهم عندنا عاجزون.
وليس الإتيان بمثل القرآن من قلب المدائن، والإتيان بالتابوت في شيء، لأن قلب المدينة وحمل التابوت العظيم كالذي يوصف من تابوت بني إسرائيل، لقصور قواهم عنه، فإذا زادت قوة الملك على قوة الآدمي أضعافاً مضاعفة زاد عمله أيضا كذلك.
وأما نظم القرآن فإنه ليس من جنس نظم كلام الناس ولكنه مباين لهذا، فلا يهتدي إليها فيحتذي ويمثل، فهو تركيب الجواهر غير الأجسام، لتصير أجساماً، ولا على قلب الأعيان ولا يقدرون عليه من ذلك. والملائكة أيضاً لا يقدرون عليه كذلك.