للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون راهباً لمولاه لثبوت يد المولى عليه، وعجز العبد عن مقاومته، وترك الانقياد له. والخوف على وجوه:

احدها: أما يحدث عن معرفة العبد بذلة نفسه، وهو أنها وقصورها وعجزها عن الامتناع عن الله تعالى، إن أراده بسوء. وهذا نظير خوف الولد والديه، وخوف الناس سلطانهم، وإن كان عادلا محسنا، وخوف المماليك ملاكهم.

والثاني: ما يحدث من المحبة، وهو أن يكون العبد في غاية الأوقاف وجلا من أن يكله الله إلى نفسه ويمنعه مواد التوفيق، ويقطع دونه الأسباب. وهذا خلق كل مملوك أحسن إليه سيده يعرف قدره إحسانه واجبه عليه، وإنه لا يزال مشفقا على منزلته عنده، خائفا من السقوط عنها والفقد لها.

والثالث: ما يحدث عن الوعيد، وهذا دون هذه الأنواع وتألفها بالأنفس الخسيسة التي لا يأتيها ولا قوي فعلها مريض. ومن كان من هذا النوع فإنه قد يحدث عند الهم بالمعصية، فأما أن يردع عن مواقعها فيكون قد وقع. وأما أن لا يقطع به ارتداع فيصير سببا ليغلظ المعصية، فإن مواقعتها على ذكر من الوعيد، أغلظ من مواقعتها على غفلة وسهو عنه، وقد يحدث بعد المعصية، فأما أن يحدث يوما عاجلا أو آجلا، فيكون قد أفاد خيرا، وأما أن يتبعه سهو نسيان، فيعود الخائف بعده كما كان.

وقد نبه الكتاب على هذه الأنواع كلها. فأما الأول فقوله عز وجل: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} أي تخافون لله عظمة. ولا فرق بين أن يقول السيد لمملوكه: ما لك لا تخاف سلطاني ومملكتي، وبين أن يقول له: ما لا تعرف نفسك قدرها، ولا ينزلها منزلة مثلها. فبين أن الكلامين يراد بهما تقدير حال العبد عند نفسه لئلا يأمن من سطوة سيده، ويدعوه ذله إلى مفارقة طاعته.

وأما ما هو أبين من هذا فقوله عز وجل: وإذا مسكن الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوران أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيد من فيه تارة أخرى فيرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتك أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا علينا به تبيعا}.

<<  <  ج: ص:  >  >>