عاش حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو احترم دونه. وهذا كله قبل الفتح، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام سقط فرض الهجرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا هجرة بعد اليوم). وإنما كانت الهجرة قبل الفتح واجبة لمعنيين. أحدهما حيلولة المشركين من أسلم بها، وبين التدين بالإسلام والعمل به، وكانوا هم الظاهرين عليها ولم يكونوا يطافون.
والآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإمام والمتبع، فلما هاجر من مكة وهي وطنه، وفيها عشيرته، لم يكن لمسلم أن يرغب بنفسه عن نفسه فيقيم بها وهو مفارق إياها، رغبة عنها لظهور الكفر فيها واستيلاء الكفر عليها. فلما فتح الله تعالى مكة لنبيه صلى الله عليه وسلم فصارت دار الإسلام بعوده إليها، زال المعنيان جميعًا، فزال معنى الهجرة.
وفي وجوب الهجرة على من أسلم بمكة معنى ثالث، ولكنه ذلك إنما يكون بعد نزول فرض القتال، لزم المسلمين من أهل مكة أن يتحيزوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونوا معه يدًا واحدة على قتال المشركين، ولئلا يغتالهم أهل مكة إن سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هم بقصدهم وقتالهم، فتجتمع لهم الأمة على أنفسهم، والاجتماع مع أخوانهم على قتال الأعداء والله أعلم.
فإن قيل: فما الذي يفعله المبتلي لمجاورة الفساق وأهل الأهواء؟
قيل: يعمل لخاصته، ويدرأ العوام، وقد يمكنه من ذلك ما لم يمكن المبتلي بمجاورة المشركين، لأن للفساق يعلمون إن خلاف ما هم فيه، فلا يحملهم ذلك على أن يتحولوا بين الصلح وإصلاحه، وأهل الأهواء قد علموا من أنفسهم أنهم متأولون، والمتأول قد يخطئ ويصيب فلا يحملهم ذلك أيضًا على أن يكرهوا أحدًا منهم من يخالفه على إتباع هواه، فيصير المحق أن يرجى بين ظهرانهم أيامه، وليكم المصلح أيضًا أن يدافع فيما بين المفسدين أوقاته، وليس المشركين كذلك لأنهم يعتقدون أنهم المحقون، وإن المسلمين هم المبطلون قطعًا بذلك وبناء فلا يبعد أن يحملهم ذلك على أنه المسلمين واغتيالهم.
فلذلك يلزمه إذا أشفق على نفسه ويخاف أن يقضي على دينه وإن لم يكن لهم منهم مخافة فلا هجرة عليه والله أعلم.