كما كان لا يجوز له في أول ما سئل عن الحديث أن يكتبه، فيعرض لم يبلغه ولم يسمعه الاجتهاد فيما جاء الحديث فيه. ولعله إذا اجتهد أخطأ وترك وظن ما ليس بحكم حكمًا، وأنزل ما ليس عند الله حقًا. فلما لم يسعه في أول الأمر كتمان الحديث، فلهذا المعنى لم يسعه من بعد ردهم إلى أحد بمن الذين جاءوا أخر وإحالتهم على الأولين والله أعلم.
وإن أخبر العالم بما عنده قومًا فسألوه أن يعيده عليهم مرة أو أكثر ليحفظوه. فإن كانوا فهموه وأدركوا معناه، ولكنهم أغفلوا ألفاظه أو بعضها لم يكن عليه أن يعيده عليهم، وإن كانوا لم يفهموه مع علمهم باللسان، فعليه إعادته، كما عليه تحديث غيرهم به إذا سألوه. لأن حاجة الذي سمع علم يفهم، وهو يرجو إذا أعيد عليه أن يفهم لحاجته من لم يسمع، وهو يرجو إذا سمع أن يفهم، وكذلك لو سمع وفهم ثم نسي واستعاد، فهو كالذي لم يسمع. وعلى الراوي بحديثه إلى ثلاث، فإن جاوزها لم يكن عليه أن يعيده بلا عوض، وينبغي أن يكتبه السامع لئلا ينساه، أو يستكتبه غيره، وهذا إذا نسي الحديث أصلا، فلم يذكر لفظه ولا معناه. فإن استعيد ما روى في مجلس واحد مرات ليحفظ ألفاظه بعدما فهم معناه، كان له أن لا يفعل إلا بعوض، لأن هذا تعليم لا رواية. فإن الحديث قد حصل عند السامعين بما عرفه من معناه، وإنما يريد أن يحتمل ألفاظه بأعيانه لئلا يحتاج إلى أن يكتبوا ما عرف من المعنى ألفاظًا من عنده، إذا أخبر به غيره، وإنما كان على الراوي إذا ما سمع إليه ليشركه في علمه.
فأما إنكاره على إبلاغ ذلك، فليس إليه. ألا ترى أنه لو كان لا يقدر على الحفظ، ولم يكن عنده ما يكتب فيه، أولا لا يحسن أن يكتب لم يلزمه أن يكتب له بغير عوض وكذلك لا يلزمه أن يكرر عليه ما روى عودًا على بدء، وليحفظ فيمكنه أن يؤديه إلى غيره بغير عوض والله أعلم.
وإذا استملى العالم الحديث فعليه إملاءه، وإن كان ما رواه وسمع منه ثم استعيده إملاء، فعلى ما وصفت والله أعلم. وإذا حضر ليسمع منه الحديث، فأذن في القراءة عليه فقالوا: نريد لفظًا كان به أن لا يتكلف القراءة بنفسه إلا بعوض. وإنما يحرم عليه إذا لم يخرج ما عنده، فيقرأ أو يقرأ عليه إلا أن يعوض. فأما إذا أخرجه وأمر بالقراءة عليه فكلف أن يقرأ، فهذا شغل زائد على التبليغ والأداء، فله أن لا يفعله بغير عوض له