أكبر كان من الضياع أبعد، لأن كل أحد لا يقدر حمله ولا كتمانه، فمن التيه بالمصحف أن يتخذ منه ما يحمي بنفسه، فيكون القلب عليم آمن، وإلى بقائه أسكن، ومن المساهلة فيه وترك الحفل به، فيكون عرضة للأيدي المخاطبة، وذوي الأمانات المحيلة الناقصة. ولن يغفل هذا أحد بما عنده إلا إذا قل مقداره عنده، وخف على قلبه أمره، وما ينبغي أن يكون هذا حال المصحف عند من يؤتمن بما فيه وبالله العصمة.
وأما أفراد المصحف بالقرآن وتجريده عما سواه، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإثبات ما ينزل من القرآن، فلم يحفظ أنه أمر بإثبات آيات السور أو العواشر، أو الوقوف. وأمر أبو بكر بجمع القرآن من اللحافة والعشب، وقطع الادم، ونقل عنها إلى مصحف. كما كان حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترتيب الآيات والسور، ثم اتخذ عثمان رضي الله عنه من ذلك المصحف مصاحف، وبعث بها إلى الأمصار. فلم يعرف أنه أثبت في المصحف الأول، ولا فيما نسخ منه شيء سوى القرآن.
وكذلك ينبغي أن يعمل في كتابة كل مصحف. ومن كتب مصحفًا، فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير ما كتبوه شيئًا. فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي لنا أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم ولا سقطًا لهم.
وأيضًا فإن من إجلال القرآن أن لا يخلط به في المصحف المنسوب إليه، المشرف باسمه غيره. ألا ترى أنه لا يجوز أن تضم صحيفة شعر إلى صحيفة قرآن في جلد واحد. فهذا من ذاك أشد، وبالمنع منه أحق، وأيضًا فإن غير القرآن، إذا كتب آيات القرآن لم يؤمن - لم تلبيس في الجاهل - فيرى أنه منه، فوجب الاحتراز من ذاك بتجريد القرآن، وإن كان عند من يترخص في هذا لأنه يعتصم من التباس ذلك بأن يكتب عدد الآيات والسجدات والعواشر بالذهب، والقرآن بالحبر. فليعلم أن من أشد الخرق وأسوأ الأدب أن يكتب كلام الله تعالى بالحبر. وعدد الآيات بماء الذهب. وإن ماء الذهب أغلى من الحبر، فلو جاز أن يضم إلى القرآن في المصحف غيره وحسن ذلك، لكان القرآن بأن يكتب بماء الذهب وعدد الآيات بالحبر أولى. فإذا كان لا يفعل فخلافه بأن يترك ولا يفعل أحق وأولى والله أعلم.