ونحا نحو فعل ابن جرير هذا فريق من العلماء، مثل الطحاوي، والغزالي، وغيرهما. ولعل سبب ذلك أن الإمام أحمد لم يُؤثر عنه كتاب واحد في الفقه في عصر انتشر فيه التدوين في شتى العلوم، وإنما أُثر عنه "المسند"، الذي صار للناس إمامًا، ولا يناقض ذلك أن له اختيارات في الفقه، ومسائل رواها عنه أتباعه، إذ العبرة بغلبة المنهاج.
إلا أن الصواب في ذلك أن الإمام أحمد كان محدثًا وفقيهًا، غلبت عليه نزعته إلى الحديث، وإن كان لم يترك مؤلفًا في الفقه، فقد أفرغ حصيلته في الفقه في صدور تلاميذه الذين عنوا بجمع أقواله، وفتاويه، وما ذلك إلا لشدة كراهته للتصنيف في غير الحديث. ومثله في ذلك مثل الإمام مالك، فلم يترك إلا "الموطأ" وهو كتاب حديث أكثر منه كتاب فقه، وأما "المدونة" فقد جُمعت بعده، ولم ينكر أحد فقه مالك، ولا تقدمه بالاجتهاد، وما روي من مسائل عن الإمام أحمد أكثر مما رُوي عن الإمام مالك، رحمهما اللَّه.
كما أنَّ هذا القول -أعني: أنَّ الإمام أحمد لم يكن فقيهًا- يدخل فيه بعض التعصب المذهبي من مروجيه، فتناقلوه عن ابن جرير وكأنه قولٌ مسلَّمٌ به، وتفنيد ذلك يطول، ونكتفي بهذه الأقوال:
* وهذه بعض شهادات بعض مُعاصريه، وسيأتي في ترجمته المفصلة المزيد: قال الربيع بن سليمان: قال لنا الشافعي: أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة.
"طبقات الحنابلة" ١/ ١٠،
= الفترة، وظهر ذلك في مقولته عن فقه الإمام أحمد، ولم يُنقل عنه غيرها، كما يتضح أن كتاب "اختلاف الفقهاء" كان قد انتهى من تصنيفه وقتها، أما ما يتعلق بموضوع الجلوس العرش فقد نقل القول الآخر ووافقه في "تفسيره"، والموضوع مُفصل في قسم العقيدة من "الجامع".