لأن الله عز وجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا، ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعا معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة.
ولما كان وجود هذه الخليقة مسندا إلى أخبار يقينية متواترة وردت إلينا من الكتاب والسنة، وكان أمرها معلوما من الدين بالضرورة أجمع المسلمون على أن إنكار الجن أو الشك في وجودهم يستلزم الردة والخروج عن الإسلام. إذ أن إنكارهم إنكار لشيء علم أنه من الدين بالضرورة، عدا أنه يتضمن تكذيب الخبر الصادق المتواتر الوارد إلينا عن الله عز وجل وعن رسوله.
ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل من حيث يزعم أنه لا يؤمن إلا بما يتفق مع (العلم) ، فيمضي يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان، من أجل أنه لم ير الجان ولم يحسّ بهم.
إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها. والقاعدة العلمية المشهورة تقول: عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود؛ أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقودا أو غير موجود.
خامسا: ما موقع كل ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في سياحته هذه في الطائف وما أثر كل هذا الذي عاناه، في نفسه؟
يتضح الجواب على هذا فيما قاله النبي عليه الصلاة والسلام لزيد بن حارثة، حينما سأله زيد متعجبا: «كيف تعود يا رسول الله إلى مكة وهم أخرجوك» ؟ فقد أجابه في ثقة واطمئنان قائلا:
«يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيّه» .
وإذن فإن كل ذاك الذي رآه وعاناه في الطائف، بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما في مكة، لم يكن له أي تأثير على ثقته بالله تعالى أو على قوة العزيمة الإيجابية في نفسه.
ولا والله، ليست هذه عزيمة بشر أوتي طبعه مزيدا من التحمل أو قوة الإرادة.
ولكنه يقين النبوة كان ثابتا في قلبه صلّى الله عليه وسلم فهو يعلم أنه إنما ينفذ أمر ربه ويسير في الطريق التي أمره الله أن يسير فيها، ومما لا ريب فيه أن الله بالغ أمره، وقد جعل لكل شيء قدرا.
والفائدة التعليمية لنا في هذا الأمر، هي أن لا تصدنا المحن والعقبات التي تكون في طريق الدعوة الإسلامية عن السير، وأن لا تبثّ فينا روح الدعة والكسل، ما دمنا نسير على هدى من