ومن هنا تعلم أنه لا معنى ولا مكان لكلمة رجال الدين، في المجتمع الإسلامي، حينما تطلق على فئة معينة من المسلمين. ذلك أن كل من دخل الإسلام فقد بايع الله ورسوله على الجهاد من أجل هذا الدين، ذكرا كان أم أنثى عالما أو جاهلا، ومهما كان شأنه أو اختصاصه، فالمسلمون كلهم رجال لهذا الدين، اشترى منهم الله أرواحهم وأموالهم بأن لهم الجنة يسخرونها في سبيل إقامة دينه ونصر شريعته.
ومن المعلوم أن هذا كله لا علاقة له بما للعلماء من اختصاص البحث والاجتهاد وتبصير المسلمين بأحكام دينهم، وحلّ ما قد يجدّ من المشكلات في حياتهم، على ضوء نصوص الشريعة الثابتة مع الزمن.
[بيعة العقبة الثانية]
ثم إن مصعب بن عمير عاد إلى مكة في موسم العام التالي، ومعه جمع كبير من مسلمي المدينة، خرجوا مستخفين مع حجاج قومهم المشركين.
قال محمد بن إسحاق يروي عن كعب بن مالك:«فواعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق. فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لها، نمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نتسلل تسلّل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي.
قال: فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، فتكلم القوم وقالوا: خذ منا لنفسك ولربّك ما أحببت.. فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» .
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: «نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنّعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة (أي السلاح كله) ورثناها كابرا عن كابر» .
فاعترض القول- والبراء يتكلم- أبو الهيثم بن التيّهان فقال:«يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟» .
فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قال:«بل الدّم الدّم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» .