للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي بيان هذه الحقيقة والتحذير من فهم الإسلام على أنه كلمات وعبادات فقط، يقول الله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً [النساء ٤/ ٦٠] .

رابعا: ما من ريب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان هو المتكفل بعبء الدعوة إلى دين الله، إذ هو رسوله إلى الناس كافة فلا بدّ له من تبليغ دعوة ربّه.

ولكن ماذا عن أولئك الذين يدخلون في الإسلام وعن علاقتهم بعبء هذه الدعوة؟

إنك لتجد الجواب على هذا، في إرسال الرسول صلّى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أولئك الإثني عشر إلى المدينة بدعوة أهل المدينة إلى الإسلام وتعليمهم قراءة القرآن وأحكامه وإقامة الصلاة.

ولقد انطلق مصعب بن عمير سعيدا بتلبية أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وراح يدعو أهل المدينة إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن ويبلغهم أحكام الله، ولقد كان الرجل يدخل عليه وفي يده حربة يريد أن يقتله بها، فما هو إلا أن يتلو عليه شيئا من كتاب الله ويذكر له بعض أحكام الإسلام، حتى يلقي حربته ويتخذ مجلسه مع من حوله مسلما موحدا يتعلم القرآن وأحكام الإسلام، حتى انتشر الإسلام في دور المدينة كلها ولم يكن بينهم حديث إلا عن الإسلام.

وهل تعلم من هو مصعب بن عمير هذا؟!

إنه ذاك الذي كان أنعم غلام بمكة، وأجود شبانها حلّة وبهاء. فلما دخل الإسلام، طوى كل تلك الرفاهية وذلك النعيم، وانطلق في سبيل الدعوة الإسلامية من وراء رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتجرع كل شدة ويستعذب كل عذاب حتى قضى نحبه شهيدا في غزوة أحد، وليس له مما يلبسه إلا ثوب واحد، أرادوا أن يكفنوه به، فكانوا إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فأخبروا بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبكى للذي كان فيه من النعمة في صدر حياته، ثم قال:

«ضعوه مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر» «٣٩» .

فليست مهمة الدعوة الإسلامية وقفا على الرسل والأنبياء وحدهم، ولا خلفائهم وورثتهم العلماء الذين يأتون من بعدهم، وإنما الدعوة الإسلامية جزء لا يتجزأ من حقيقة الإسلام نفسه، فلا مناص ولا مفر لكل مسلم من القيام بعبئها مهما كان شأنه أو عمله واختصاصه، إذ حقيقة الدعوة إنما هي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو جماع معنى الجهاد كله في الإسلام، وأنت خبير أن الجهاد فرض من فروض الإسلام تستقر تبعته على كل مسلم.


(٣٩) مسلم: ٣/ ٤٨، وانظر الإصابة لابن حجر: ٣/ ٤٠٣

<<  <   >  >>