الأمانة، وأينعت أرض الجزيرة بغرس التوحيد وانتشر الإسلام يغزو الأفئدة والقلوب في كل مكان.
وإن بالناس- وهم اليوم كثرة متفرقون- لشوقا إلى مزيد من اللقاء مع رسولهم والاستفادة من هديه ونصائحه، وبه هو أيضا صلّى الله عليه وسلم شوقا إلى مزيد من اللقاء معهم، لا سيما تلك الحشود التي دخلت في الإسلام حديثا من مختلف جهات الجزيرة العربية، ممن لم تتح لهم فرص اللقاء الكافي معه صلّى الله عليه وسلم. وإن أكبر وأجمل فرصة لذلك إنما هي فرصة اللقاء في الحج إلى بيت الله الحرام، وفي سفوح عرفات، لقاء بين أمة ورسولها في ظل شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، لقاء اتضح أنه كان في علم الله تعالى وإلهام رسوله، لقاء توصية ووداع.
ويريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا أن يلتقي بهؤلاء الحشود المسلمة، الذين جاؤوا ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاما، ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه في كلمات جامعة وموعظة مختصرة يضمّنها كوامن وجدانه ونبرات محبته لأمته، وليستطلع من وجوههم صورة نسلهم وأعقابهم الذين سيأتون من بعد فينهي إليهم نصائحه وتوصياته من خلف حواجز الزمن ووراء أسوار القرون.
تلك هي بعض معاني حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلم: حجة الوداع، وإنك لتراها متجسدة في خطبته التي ألقاها في وادي عرنة في يوم عرفة.
ثالثا- تأملات في خطبة الوداع:
ولله ما أروعها من كلمات، تلك التي ألقاها في سفوح عرفات، وراح يخاطب فيها الأجيال والتاريخ بعد أن أدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في سبيل الدعوة إلى ربه ثلاثة وعشرين عاما لا يكلّ ولا يملّ.. ولله ما أروعها من ساعة، تلك التي اجتمع حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيها الآلاف المؤلفة، اجتمعوا حوله خاشعين متضرعين، وطالما تربّصوا به قبل ذلك متآمرين ومحاربين. آلاف مؤلفة يملؤون ما يمتد به النظر من كل الجهات، تردد بلسان حالها قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] .
وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينظر من خلال وجوههم إلى الأجيال المقبلة، إلى العالم الإسلامي الكبير الذي سيملأ شرق الأرض وغربها. وراح يلقي على مسامع هذا العالم خطابه المودع:
«أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ... » .
وأنصتت الدنيا لتسمع قوله، وأنصت الحجر والقفر والمدر إلى الكلمة المودعة ينطق بها فم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد أن أنست وسعدت به الدنيا كلها ثلاثة وستين عاما، ها هو اليوم يلمّح بالرحيل، بعد أن قام بأمر ربه وغرس الأرض بغراس الإيمان. وها هو الآن يلخص المبادئ التي جاء بها وجاهد في سبيلها في كلمات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع العالم.