للتأمل في تلك القبور التي سيغيبون في أحشائها والتربة التي سيمتدون من تحتها، وفي القبضة التي سوف لن ينجوا من حكمها.
ولقد كان من اليسير على الله عز وجل أن يجعل مرتبة رسوله صلّى الله عليه وسلم فوق مستوى الموت وآلامه، ولكن الحكمة الإلهية شاءت أن يكون قضاء الله تعالى في تجرع هذا الكأس بشدتها وآلامها عاما لكل أحد مهما كانت درجة قربه من الله جلّ جلاله، حتى يعيش الناس في معنى التوحيد وحقيقته، وحتى يدركوا جيدا أن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، فليس لأحد أن يتمطى ليعلو بنفسه عن مستوى العبودية بعد أن عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاضعا لحكمها ونزل به قضاؤها. وليس لأحد أن لا يكثر من ذكر الموت وسكرته، بعد أن عانى حبيب الله تعالى من برحائها وغشيته آلامها.
وإذن فنحن في هذا القسم الأخير من سيرته عليه الصلاة والسلام أمام مشهد لحقيقتين هما دعامتا الإيمان بالله عز وجل، بل هما دعامتا الحقيقة الكونية كلها:
حقيقة توحيد الله عز وجل، وحقيقة العبودية الشاملة التي فطر الله الناس كلهم عليها، ولا تبديل لحكم الله وأمره.
*** والآن.. فلنستعرض ما يوجد في ثنايا هذا البحث من الدروس الأحكام.
أولا- لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح:
فقد كان زيد بن حارثة رقيقا وهو والد أسامة هذا، وهو في أصله مولى، وكان أسامة كما قلنا فتى صغيرا بين الثامنة عشر والعشرين من العمر. ومع ذلك فلا الصغر ولا الرق القديم منع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أن يجعله أميرا على عامة الصحابة في غزوة مهمة كبرى! .. ولئن وجد المنافقون في هذا مثارا للتعجب أو الاستنكار، فإن شريعة الإسلام لا تستغرب ذلك ولا تستنكره، فما جاء الإسلام إلا ليحطم مقاييس الجاهلية التي كانوا بها يتفاضلون ويتفاوتون. ولعلّ النبي صلّى الله عليه وسلم وجد في أسامة ميزة جعلته أولى من غيره بقيادة الجيش في هذه الغزوة. وليس على المسلمين في هذا الحال إلا السمع والطاعة وإن أمّر عليهم عبد حبشي، ولذلك كان أول عمل قام به أبو بكر رضي الله عنه في خلافته هو إنفاذ جيش أسامة. وخرج رضي الله عنه فشيّع جيشه بنفسه ماشيا وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن. فقال أبو بكر: والله