للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك عليه في مكة، وهو يعاني من تعذيبكم وإيذائكم له، وهل ألجأتموه إلى الهجرة من بلده إلا لأنه رفض أن يستبدل الملك الذي عرضتموه عليه بالنبوة التي كان يدعوكم إلى الإيمان بها؟

إنها النبوة! ..

تلك هي الكلمة التي أدارتها الحكمة الإلهية على لسان العباس، حتى تصبح الردّ الباقي إلى يوم القيامة على كل من يتوهم أو يوهم أن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم إنما كانت ابتغاء ملك أو زعامة، أو إحياء قومية أو عصبية وهي كلمة جاءت عنوانا لحياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، فقد كانت ساعات عمره ومراحله كلها دليلا ناطقا على أنه إنما بعث لتبليغ رسالة الله إلى الناس، لا لإشادة ملك لنفسه في الأرض.

رابعا- تأملات في كيفية دخوله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة:

١- لقد رأينا فيما يرويه البخاري عن عبد الله بن المغفل أنه صلّى الله عليه وسلم كان وهو على مشارف مكة يقرأ سورة الفتح، يرجّع في تلاوته لها، والترجيع كيفية معينة في القراءة يترنم بها القارئ.

وهذا يدل- كما نرى- أنه صلّى الله عليه وسلم كان مستغرقا في حالة شهود مع الله تعالى أثناء دخوله مكة، فما كانت لنشوة الظفر والنصر العظيم إلى نفسه من سبيل ولم يكن شيء من التعاظم أو التجبر ليستولي على شيء من مشاعره، إنما هو الانسجام التام مع شهود الله تعالى والشكر على نصره وتأييده.

ويزيد في تصوير هذا المعنى ما رواه ابن إسحاق من أنه صلّى الله عليه وسلم لما وصل إلى ذي طوى كان يضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.

وهذا يعني أنه صلّى الله عليه وسلم كان مندمجا في حالة من العبودية التامة لله تعالى إذ رأى ثمرة القيام بأمر ربه، ونظر إلى نتيجة كل ما قد كان لقيه من العذاب من قومه، وكيف أن الله أعاده إلى البلدة التي أخرجته عزيزا منصورا مكرما! .. إنها الساعة التي ينبغي أن تمتلئ بشكر الله تعالى وحده، وينبغي أن يفيض الزمن كله فيها بمعنى العبودية التامة لله تعالى.

وهكذا يجب أن تكون حال المسلمين دائما، عبودية مطلقة لله في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، عند الضعف والقوة. وليس من شأن المسلمين إطلاقا، أن يتظاهروا بالذل لله تعالى كلما حاقت بهم مصيبة أو كرب، حتى إذا انكشف الكرب وزال الضر، أسكرتهم الفرحة بل أسكرهم الطغيان عن كل شيء، ومرّوا من جنب أوامر الله تعالى وأحكامه ساهين لاهين، كأن لم يدعوه ويتذللوا له في كشف ضر مسّهم! ..

٢- يدلنا أيضا هذا الذي رواه البخاري، على مشروعية الترنم والتغني بقراءة القرآن، وهو المعنى الذي عبر عنه عبد الله بن المغفل بالترجيع. وهو الحق الذي عليه عامة العلماء من الشافعية

<<  <   >  >>