للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وهبّو مسرعين عائدين إلى مكة. وأقام النّبي صلّى الله عليه وسلم في حمراء الأسد: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة» «٢٨» .

[العبر والعظات:]

تنطوي غزوة أحد على دروس بالغة الأهمية للمسلمين في كل عصر، ولكأن الحكمة من وقوعها على الشكل الذي بيّناه، أن يتكون منها درس تطبيقي عملي، يعلّم المسلمين كيفية البلوغ إلى النصر في معاركهم مع العدو، وكيفية التحرز من مزالق الفشل والهزيمة، فلنقف على هذه الدروس العظيمة ولنتأمل فيها، الواحدة إثر الأخرى:

أولا: يتجلى هنا أيضا المبدأ الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأخذ به نفسه، وهو التزام التشاور مع أصحابه في كل أمر يحتمل المشاورة والبحث. ولكنا نقف هنا على فارق واحد لم نجده في المشاورة التي تمّت قبيل غزوة بدر. فقد لاحظنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشأ أن يعود عن موافقته لأصحابه الذين اقترحوا الخروج للقاء العدو خارج المدينة، بعد أن لبس درعه وأخذ أهبته للقتال، على الرغم من أنهم ندموا وعادوا عن رأيهم ورجوه البقاء إذا كان يرى ذلك. وربما كان النّبي صلّى الله عليه وسلم يميل- أو يظهر الميل- عند التشاور إلى البقاء في المدينة.

ولعل الحكمة الجلية في هذا، أن البحث في الأمر بعد أخذ العدة للقتال، وبعد ظهور النّبي صلّى الله عليه وسلم في قومه وأصحابه لابسا دروعه آخذا سلاحه، شيء خارج عن حدود ما يقتضيه مبدأ التشاور خصوصا في القضايا الحربية التي تحتاج- مع المشورة- إلى قدر كبير من الحزم والعزم. ثم إن المعنى الذي قد يتولد عن تقاعسه صلّى الله عليه وسلم عن الخروج بعد أن طلع عليهم مستعدا لذلك، إنما هو الضعف والاضطراب في الإرادة وهو كثيرا ما يكون نابعا من الخوف والحذر اللذين لا معنى لهما.

ولذلك أجابهم النّبي صلّى الله عليه وسلم عن كلامهم بعبارة فيها كل الحزم والعزم، دون أن يلتفت إلى لغط القوم وتعاتبهم فيما بينهم، قال: «ما ينبغي لنبيّ لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» .

ثانيا: للمنافقين في هذه الغزوة مشهد بارز.. ولم لا يكون مشهدهم بارزا فيها، وهي إنما انطوت على حكم ومقاصد، من أهمها تمحيص المؤمنين عن أخلاطهم من المنافقين؟ وإن من وراء ذلك لفوائد كبيرة للمسلمين كانت ذخرا لهم فيما بعد.

لقد رأينا كيف انخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاث مئة من أتباعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، بعد خروجهم من المدينة، وسبب ذلك في ظاهر ما تذرع به: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلم إنما أخذ برأي الشبان الأغرار، ولم يأخذ برأي أمثاله من الشيوخ أرباب الحجى والأحلام. غير أن سبب ذلك في الحقيقة وواقع الأمر، هو أنه لا يريد قتالا. لأنه لا يريد أن يعرّض نفسه لمخاوفه


(٢٨) طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام وتاريخ الطبري.

<<  <   >  >>