تضبط عملية استنباط النتائج والمبادئ من تلك الأحداث، ضمن قالب علمي يقصيها عن سلطان الوهم وشهوة الإرادة النفسية التي يعبر عنها أمثال وليم جيمس بإرادة الاعتقاد.
من هذه القواعد: القياس الاستقرائي، وقانون الالتزام بأنواعه المختلفة، والدلالات بأنواعها.. إلخ.
ولقد استنبطت من أحداث السيرة النبوية طبقا لهذه القواعد أحكام كثيرة، منها ما يتعلق بالاعتقاد واليقين، ومنها ما يتعلق بالتشريع والسلوك. والمهم في هذا الصدد أن نعلم بأنها جاءت منفصلة عن التأريخ وتدوينه، بعيدة عن معناه ومضمونه، وإنما كانت نتيجة معاناة علمية أخرى نهضت في حد وجودها على البنيان التاريخي الذي قام بدوره على القواعد العلمية التي ذكرناها.
[السيرة النبوية على ضوء المذاهب الحديثة في كتابة التاريخ:]
في القرن التاسع عشر ظهرت طرائق كثيرة متنوعة في كتابة التاريخ وتدوينه، إلى جانب الطريقة الموضوعية، أو ما يسمونه بالمذهب العلمي، وقد تلاقى معظم هذه المذاهب فيما أطلق عليه اسم المذهب الذاتي. ويعد (فرويد) من أكبر الدعاة إليه والمتحمسين له.
ولا يرى أقطاب هذا المذهب من ضير في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي، في تفسير الأحداث وتعليلها والحكم على أبطالها.. بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ، لا مجرد وصف الأخبار وتجميع الوقائع العارية.
وهذه الطريقة تجعل كتابة التاريخ وتدوينه عملا فنيا مجردا، ولا تسمح بعدّه نهوضا بعمل علمي دقيق.
ونحن، وإن كنا لسنا بصدد الحديث عن المذاهب التاريخية ونقدها، فإن علينا ألّا نخفي أسفنا من أن يجد هذا المذهب- في عصر العلم والاعتزاز به وبمنهجيته- دعاة إليه ومؤمنين به. ذلك لأن هذا المذهب كفيل أن يمزق جميع الحقائق والأحداث التي يحتضنها الزمن في هيكله القدسي القديم الماثل أمام الأجيال، بفعل سبحات من أخيلة التوسم وشهوة الذات وعصبية النفس والهوى.
وكم من حقيقة مسخت، وأحداث نكّست، وأمجاد دثرت، وبرءاء ظلموا، تحت سلطان هذه المحكمة الوهمية الجائرة.
فهل كان لهذا المذهب الجديد من تأثير على كتابة السيرة وطريقة تحليلها؟
والحقيقة أن هذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساسا لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبوية وفهمها عند طائفة من الباحثين. فكيف نشأت هذه المدرسة؟ .. وما هي عوامل نشأتها؟ .. وما مصيرها اليوم؟ ..
تعود نشأة هذه المدرسة إلى أيام الاحتلال البريطاني لمصر، لقد كانت مصر آنذاك منبر العالم