الإسلامي كما نعلم، يعنو إليه بتفكيره وعقله كلما أراد أن يعلم عن الإسلام علما، كما يعنو إلى كعبة الله بوجهه كلما أراد حجا أو صلاة.
وكان في استمرار هذا الصوت العظيم من جانب، وفي استمرار إنصات العالم الإسلامي إليه من جانب آخر، ما لا يدع للاحتلال البريطاني فرصة هدوء أو استقرار. ومهما أخضعت بريطانيا لنفسها الوادي كله تحت سلطان من قوة الحديد والنار. فإنه خضوع موقوت لا يطمأن إليه، ما بقيت للأزهر هذه القيادة الحية.
لذا فقد كان لابد للاحتلال البريطاني من الإقدام على أحد علاجين لا ثالث لهما:
أولهما: أن يقطّع ما بين الأزهر والأمة، بحيث لا يبقى له عليها من سلطان.
ثانيهما: أن يتم التسلل إلى مركز العمليات القيادية في الأزهر ذاته، فتوجّه قيادته الوجهة التي ترضي مصالح الاحتلال وتهيئ له أسباب الطمأنينة والاستقرار.
ولم تتردد بريطانيا في اختيار العلاج الثاني، نظرا إلى أنه أقرب منالا وأبعد عن الملاحظة والانتباه «٣» .
وكان السبيل الوحيد إلى هذا التسلل نحو القيادة العلمية والفكرية داخل الأزهر، الاعتماد على نقطة ضعف أليمة كانت تعاني منها مشاعر الأمة الإسلامية عامة، بما فيها مصر وغيرها. وهي إحساس المسلمين بما انتابهم من الضيعة والتخلف والشتات، إلى جانب ملاحظتهم للنهضة العجيبة التي نهضها الغرب في شتى المجالات الفكرية والعلمية والحضارية! .. لقد كان المسلمون يتطلعون ولا ريب إلى اليوم الذي يتحررون فيه من الأثقال التي خلفتهم إلى الوراء، ليشتركوا مع الآخرين في رحلة الحضارة والمدنية والعلم الحديث.
من هذا السبيل تسلل الهمس، بل الكيد الاستعماري إلى صدور بعض من قادة الفكر في مصر. ولقد كان مؤدى هذا الهمس أن الغرب لم يتحرر من أغلاله، إلا يوم أخضع الدين لمقاييس العلم ... فالدين شيء والعلم شيء آخر، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني. وإذا كان العالم الإسلامي حريصا حقا على مثل هذا التحرر فلا مناص له من أن يسلك الطريق ذاته، وأن يفهم الإسلام هنا، كما فهم الغرب النصرانية هناك. ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيات التي لا تفهم ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث.
وسرعان ما خضع لهذا الهمس، أولئك الذين انبهرت أبصارهم بمظاهر النهضة الأوربية الحديثة. ممن لم تترسخ حقائق الإيمان بالله في قلوبهم، ولا تجلت حقائق العلم الحديث وضوابطه في
(٣) انظر مذكرات اللورد كرومر، والاتجاهات الوطنية في الأدب الحديث للدكتور محمد محمد حسين.