لهذه الوثيقة دلالات هامة تتعلق بمختلف الأحكام التنظيمية للمجتمع الإسلامي. ونلخصها فيما يلي:
١- إن كلمة (الدستور) هي أقرب إطلاق مناسب في اصطلاح العصر الحديث على هذه الوثيقة. وهي إذا كانت بمثابة إعلان دستور فإنه شمل جميع ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث يعنى بوضع الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة في الداخل والخارج؛ أي فيما يتعلق بعلاقة أفراد الدولة بعضهم مع بعض، وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين.
وحسبنا هذا الدستور الذي وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بوحي من ربه واستكتبه أصحابه، ثم جعله الأساس المتفق عليه فيما بين المسلمين وجيرانهم اليهود. حسبنا ذلك دليلا على أن المجتمع الإسلامي قام منذ أول نشأته على أسس دستورية تامة، وأن الدولة الإسلامية قامت- منذ أول بزوغ فجرها- على أتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والإدارية.
وظاهر أن هذه المقومات، أساس لابد منه لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المجتمع. إذ هي في مجموعها إنما تقوم على فكرة وحدة الأمة الإسلامية وما يتعلق بها من البنود التنظيمية الأخرى، ولا يمكن أن نجد أرضية يستقر عليها حكم الإسلام وتشريعه ما لم يقم هذا التنظيم الدستوري الذي أوجده رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على إنه في الوقت نفسه جزء من الأحكام الشرعية نفسها.
ومن هنا تسقط دعاوى أولئك الذين يغمضون أبصارهم وبصائرهم عن هذه الحقيقة البديهية، ثم يزعمون أن الإسلام ليس إلا دينا قوامه ما بين الإنسان وربه، وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستوري شيء. وهي أحبولة عتيقة، كان يقصد منها محترفو الغزو الفكري وأرقاء الاستعمار، أن يقيدوا بها الإسلام كي لا ينطلق فيعمل عمله في المجتمعات الإسلامية ولا يصبح له شأن قد يتغلب به على المجتمعات المنحرفة الأخرى. إذ الوسيلة إلى ذلك محصورة في أن يكون الإسلام دينا لا دولة، وعبادات مجردة، لا تشريعا وقوانين. وحتى لو كان الإسلام دينا ودولة في الواقع، فينبغي أن ينقلب فيصبح غير صالح لذلك ولو بأكاذيب القول.
غير أن هذه الأحبولة تقطعت سريعا، لسوء حظ أولئك المحترفين، وأصبح الحديث عنها من لغو القول ومكشوف الحقد والضغائن.
ولكن مهما يكن، فينبغي أن نقول، ونحن بصدد تحليل هذه البنود العظيمة:«إن مولد المجتمع الإسلامي نفسه إنما كان ضمن هيكل متكامل للدولة، وما تنزلت تشريعاته إلا ضمن قوالب من التنظيم الاجتماعي المتناسق من جميع جهاته وأطرافه، وهذه الوثيقة أكبر شاهد على ذلك» .