للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أجمع الرواة وأهل العلم أنه صلّى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين عاما من العمر، قضى أربعين منها قبل البعثة، وثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله في مكة وعشر سنين قضاها في المدينة بعد الهجرة.

وكانت وفاته في أول العام الحادي عشر.

وروى البخاري عن عمرو بن الحرث، قال: «ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة» .

[العبر والعظات:]

في أحداث هذا القسم الأخير من سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، تلوح قصة الحقيقة الكبرى في هذا الوجود!. الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين، وطغيان البغاة والمتألهين. إنها الحقيقة التي تمدّ صفحة هذا الوجود المائج كله، بغاشية الانتهاء والفناء. وتصبغ الحياة البشرية بصبغة العبودية والذل لقهار السموات والأرض. حقيقة تسربل بها (طوعا أو كرها) العصاة والطائعون، والرؤساء والمتألهون، والرسل والأنبياء، والمقربون والأصفياء، والأغنياء والفقراء، ودعاة العلم والاختراع!.

إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان، وفي أذن كل سامع وعقل كل مفكر: «أن لا ألوهية إلا لله وحده، وأن لا حاكمية إلا لذاك الذي تفرد بالبقاء، فهو الذي لا مردّ لقضائه، ولا حدود لسلطانه، ولا مخرج عن حكمه، ولا غالب على أمره» .

أيّ حقيقة تنطق بهذه الدلالة نطقا لا لبس فيه ولا غموض أعظم من حقيقة الموت وسكرة الموت إذ قهر الله بهما سكان الدنيا كلها منذ فجر الوجود إلى أن تغيب شمسه؟! ..

لقد مرّ في معبر هذه الدنيا كثير من أولئك المفتريّن الذين غرقوا في شبر من القوة التي أوتوها، أو العلوم التي فهموها، أو المخترعات التي اكتشفوها، ولكن هذه الحقيقة الكبرى سرعان ما انتشلتهم وألقت بهم في بيداء العبودية وأيقظتهم إلى صحو التذلل لقيوم السماوات والأرض مالك الملك كله، فقدموا إلى الله عبيدا أذلاء خاضعين.

كل نفس ذائقة الموت! ..

إطلاق لا قيد فيه، وعموم لا مخصص له، وشمول ليس للدنيا كلها أن تجعل له حدّا. فليأت دعاة العلم الجديد، والرقي الحديث، ومتوثبو الغزو الفضائي فليجمعوا أمرهم وليضفروا جميع إمكاناتهم المختلفة وليحشدوا كل أقمارهم المصنوعة ومراكبهم المشروعة، فليستعينوا بذلك كله على أن يزيحوا عن أنفسهم شيئا من سلطان هذا الموت الذي قهرهم واستذلهم، وليبطلوا بذلك ولو جزءا من هذا التحدي الإلهي: كل نفس ذائقة الموت. فإن فعلوا ذلك فإن لهم حينئذ أن يشيدوا لأنفسهم صروحا عالية من الجبروت والطغيان والتأله والكفران، وإلا فأحرى بهم أن يتفرغوا

<<  <   >  >>