الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناسا دون آخرين. فقد ذكر الله تعالى في تعليل ذلك قوله: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كي لا يكون تداول المال محصورا فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط.
والتعليل بهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وإن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبتغى من ورائها إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.
ولو طبّقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعا مكتفون، ليس فيهم كلّ على آخر وإن كانوا جميعا يتعاونون.
والمهم أن تعلم أن الله تعالى لما جعل حكمة شريعته في الدنيا إقامة هذا المجتمع، شرع لذلك وسائل وأسبابا معينة ألزمنا باتّباعها وعدم الخروج عليها. أي، إن الله تعالى تعبدنا بكل من الغاية والوسيلة معا، فلا يجوز أن يقال: إن الغاية من الإسلام إقامة العدالة الاجتماعية، فلنسلك إلى ذلك ما نراه من السبل والأسباب، بل إن هذا يعد خروجا على كل من الغاية والوسيلة معا، فلن تتحقق الغاية التي أمرنا الله تعالى بتحقيقها إلا باتباع الوسيلة التي شرعها لنا سبيلا إلى تلك الغاية، والتاريخ أعظم دليل والوقائع أكبر شاهد.
هذا وجدير بك أن تعود إلى سورة الحشر بكاملها، لتتأمل تعليق البيان الإلهي العظيم على هذه الحادثة بمجموعها وعامة ملابساتها: اليهود والمنافقون، سياسة الرسول في المال والحرب، وغير ذلك ... فهذه السورة من أهم ما يمكّنك من الوقوف على دروس هذه القصة وعظاتها.
[غزوة ذات الرقاع]
وقد كانت في السنة الرابعة للهجرة، بعد مرور شهر ونصف تقريبا على إجلاء بني النضير، على ما ذهب إليه أكثر علماء السير والمغازي. ورجّح البخاري وبعض المحدثين أنها كانت بعد غزوة خيبر.
وسببها ما ظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى، فخرج عليه الصلاة والسلام قاصدا