قيّض الله لهذا الكتاب من الانتشار ومن إقبال الناس عليه، ما لم يقيضه لأيّ من الكتب الأخرى التي وفقني الله لتأليفها وإخراجها.
ومرد ذلك، في يقيني، إلى المنهج الذي سلكته في كتابة السيرة النّبوية، والذي تضمن تصحيحا للأخطاء، بل للانحرافات، التي وقع فيها كثير من الكتّاب العصريين، لا سيما أولئك الذين يتعاملون مع الشعار العصري المشبوه:(قراءة معاصرة) .
ولقد تحدثت عن هذه الأخطاء وعن العوامل الخفية والمصطنعة التي أدت إليها، كما تحدثت عن المنهج العلمي الذي يجب أن يتبع في كتابة السيرة النّبوية، مقارنا بالمدارس والمناهج الأخرى، وذلك في فصل أضفته، في إحدى الطبعات الأخيرة لهذا الكتاب، إلى المقدّمات الهامة التي افتتحته بها؛ وعنوانه (السّيرة النّبوية، كيف تطورت دراستها وكيف يجب فهمها اليوم) .
كثيرون هم الذين حلّلوا حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كتاباتهم، على أنها عظمة إنسانية مجردة، كالتي اتّصف بها كثير من القادة والرجال الذين خلوا من قبله وجاؤوا من بعده؛ وكثيرون هم الذين أصرّوا على أن يفهموا الناس أن الفتح الإسلامي الذي قاده رسول الله؛ إنما هو ثورة يسار اقتصادي ضدّ يمين متطرف! .. وكثيرون هم الذين أوهموا الناس، أو حاولوا أن يوهموهم، أن الدوافع الخفية التي قادت رسول الله ومن معه إلى ما صنع، إنما تتمثل في الرغبة الطامحة إلى نقل الزعامة والسيادة من أيدي الأعاجم إلى أيدي العرب. وجنّدت لهذه الأغراض أقلام، ونثرت ابتغاء تحقيق ذلك أعطيات وأموال؛ ورشح مؤلف هذا الكتاب ذاته في يوم من الأيام، لسلوك هذا الطريق وكتابة سيرة رسول الله بالطريقة التي تخدم هذه الأغراض، وطلب منه ذلك مباشرة وعلانية.
غير أن التّجربة أثبتت أن كلّا من الأسلوب أو المنهج أو حوك التصورات المصطنعة، لا يقوى على تحويل الحق إلى باطل أو الباطل إلى حق. فلقد انقشعت سحب هذه الكتابات كلها، على الرغم من كثافتها، وعادت شمس الحقيقة ساطعة من ورائها كما هي. وبقي الناس عامة والمثقفون خاصة، على يقين بأن عظمة رسول الله ثمرة من ثمار نبوته، قبل أن تكون من نسيج إنسانيته. وبأن الفتح الذي تمّ على يده، كان قياما بأمر الله، ولم يكن لحاقا وراء مال.. وبأن السيادة فوق هذه الأرض- فيما علّمنا إيّاه رسول الله- إنما هي للإنسان من حيث هو، فهو