بعده، ولئن كانت الحكمة الإلهية اقتضت أن لا يأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه عهدا بذلك وأن لا يسجل لهم كتابا به، فكل ذلك كي لا يصبح توارث الحكم والخلافة سنّة متبعة من بعده، وفي ذلك من مفسدة القضاء على اتباع شروط الصلاح في الحاكم ما هو غير خاف على أحد.
الرابعة: استخلافه رضي الله عنه للصلاة بالناس في مكانه، ولقد رأيت مدى شدته في تعيين أبي بكر لذلك وردّه الشديد على عائشة رضي الله عنها فيما راجعته به.
ولئن كنا نقول إن هذه المزايا الثابتة في صحاح الأحاديث لأبي بكر رضي الله عنه، هي التي رجحت مبايعة المسلمين له بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهذا لا يغض من خصائص وميز الصحابة والخلفاء الآخرين خصوصا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد رأيت أنه صلّى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر:«لأعطينّ هذه الراية غدا لرجل يحبه الله ورسوله» ، فذهب الناس يتساءلون في تلك الليلة من سيكون صاحب الراية. فكان صاحبها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولقد انتهى أمر الخلافة وأبرم المسلمون الحكم فيها عقب وفاته صلّى الله عليه وسلم، دون أن يستلزم ذلك أي تفرق أو شقاق بينهم من وراء حدود المذاكرة والمناقشة التي لا بدّ منها. وظل كل من أبي بكر وعلى رضي الله عنهما مظهرا ولسانا ناطقا بفضل الآخر. ولا ريب أن من تافه القول والعمل أن نعمد بعد مرور ما يقارب أربعة عشر قرنا على ذلك التاريخ فنضيع الوقت ونستثير الشحناء والبغضاء، في سبيل القول بأن هذا كان أولى بالخلافة أم ذاك، مع أن أصحاب العلاقة أنفسهم لم يقم بينهم أي شقاق من هذا القبيل، وما مضوا للقاء ربّهم إلا وهم ينبضون بقلب واحد حبّا وتضامنا.
رابعا- النهي عن اتخاذ القبور مساجد:
ولقد رأيت من صيغة الحديث الدّال على ذلك شدة النهي والمبالغة في التحذير من الإقدام على هذا العمل. قال العلماء:«وإنما نهى النّبي صلّى الله عليه وسلم عن اتّخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية» .
وتتحقق صورة النهي عنه بأن يشاد فوق القبر مسجد فيصبح ما حول القبر مصلى بذلك للناس، أو بأن يصلّى عند القبر وأن يتخذ مسجدا. والعلماء في حكمهم على الصلاة عند القبور، بين محرم ومكره، والذين قالوا بالكراهة شددوا بها عندما تكون الصلاة إلى القبر، أي بأن يكون القبر بين المصلي والقبلة، ولكنها صحيحة على كلّ، لأن الحرمة لا تستلزم البطلان. فيكون حكمها كحكم الصلاة في الأرض المغصوبة.
قال الإمام النووي: «ولما احتاج الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيها،