للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجاهليّة وما كان فيها من بقايا الحنيفيّة

وهذه أيضا مقدمة هامة لا بد من دراستها قبل الخوض في أبحاث السيرة وما فيها من فقه وعظات، إذ هي تنطوي على حقيقة لا يزال خصوم هذا الدين يطمسون عليها ويزيفونها بأشكال من الوهم والأباطيل.

وخلاصة هذه الحقيقة أن الإسلام ليس إلا امتدادا للحنيفية السمحة التي بعث الله بها أبا الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد صرح بذلك كتاب الله جل جلاله في آيات كثيرة منها قوله: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا.. [الحج ٢٢/ ٧٨] . ومنها قوله: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران ٣/ ٩٥] .

وأنت خبير أن العرب هم أولاد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، فكان أن توارثوا ملة أبيهم ومنهاجه الذي بعث به من توحيد الله وعبادته والوقوف عند حدوده وتقديس حرماته، وفي مقدمة ذلك تعظيم البيت الحرام وتقديسه واحترام شعائره والذود عنه والقيام بخدمته وسدانته.

فلما امتدت بهم القرون وطال عليهم الأمد، أخذوا يخلطون الحق الذي توارثوه بكثير من الباطل الذي تسلل إليهم، شأن سائر الأمم والشعوب عندما يغشاها الجهل ويبعد بها العهد ويندسّ بين صفوفها المشعوذون والمبطلون. فدخل فيهم الشرك واعتادوا عبادة الأصنام وتسللت إليهم التقاليد الباطلة والأخلاق الفاحشة، فابتعدوا بذلك عن ضياء التوحيد وعن منهج الحنيفية وعمت بينهم الجاهلية التي رانت عليهم أمدا من الدهر، ثم انقشعت عنهم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

وكان أول من أدخل فيهم الشرك وحملهم على عبادة الأصنام عمرو بن لحيّ بن قمعة جد خزاعة. روى ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن أبا صالح السمان حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن جون الخزاعي: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان

<<  <   >  >>