ثم لما أربى الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين- ما بين رجل وامرأة- اختار لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار أحدهم، وهو الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم، وكانت حصيلة الدعوة في هذه الفترة ما يقارب أربعين رجلا وامرأة دخلوا في الإسلام، عامتهم من الفقراء والأرقاء وممن لا شأن له بين قريش «١» .
[العبر والعظات:]
١- وجه السرّيّة في بدء دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام:
لا ريب أن تكتّم النّبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، خلال هذه السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ.. علم أنه رسول الله إلى الناس، وهو لذلك كان يوقن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه بهذه الدعوة قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس، على أن الله عزّ وجلّ لو أمره من أول يوم أن يصدع بالدعوة بين الناس علنا، لما توانى عن ذلك ساعة، ولو كان يتراءى له في ذلك مصرعه.
ولكن الله عزّ وجلّ ألهمه- والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه- أن يبدأ الدعوة، في فترتها الأولى، بسرّيّة وتكتّم، وأن لا يلقى بها إلا من يغلب على ظنه أنه سيصيخ لها ويؤمن بها، تعليما للدّعاة من بعده، وإرشادا لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. على أن لا يتغلب كل ذلك على الاعتماد والاتّكال على الله وحده، وعلى أن لا يذهب الإنسان في التمسك بهذه الأسباب مذهبا يعطيها معنى التأثير والفعالية في تصوّره وتفكيره. فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى، فضلا عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.
ومن هنا تدرك، أن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام، في هذه الفترة، كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماما، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبيّا.
وبناء على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية، في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة- من حيث التكتّم والجهر، أو اللين والقوة- حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادا على واقع سيرته صلّى الله عليه وسلم، ضمن الأشكال أو المراحل الأربعة التي سبق ذكرها، على أن يكون النظر في كل ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية.
ومن أجل هذا أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدّة بحيث يغلب الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا قتالهم، فينبغي، أن
(١) راجع للتوسع في هذا البحث سيرة ابن هشام: ١/ ٢٤٩- ٢٦١