للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٤- تكسير الأصنام: وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» . وقد روى ابن إسحاق وغيره أن كل صنم منها كان مرصصا من أسفله حتى يثبت قائما على الأرض، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذا!. ولماذا لا تنقلب لإشارته صلّى الله عليه وسلم ولا تتكسر، وقد قلب الله له جبروت قريش خضوعا وذلا، وجعل مكة كلها وبمن فيها تدين للدين الذي جاء به وتذعن للحق الذي نادى به!! ..

سابعا- تأملات في خطابه صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح:

والآن.. ها هي ذي مكة: البلدة التي هاجر منها قبل ثمان سنوات، خاضعة له مؤمنة برسالته وهديه، وهاهم أولاء، الذين طالما ناصبوه العداء وساموه أصناف الأذية والعذاب، مجتمعون حوله في خشوع وترقب وإطراق، فما الذي سيقوله صلّى الله عليه وسلم لهم اليوم؟!.

إن عليه قبل كل شيء أن يبدأ بالثناء على ربه الذي نصره وأيده وصدق وعده، وهكذا استفتح خطابه بقوله:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . ثم عليه بعد ذلك أن يعلن أمام قريش وغيرهم من سائر الناس، عن المجتمع الجديد وشعاره وهو الشعار الذي يتجلى في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات ٤٩/ ١٣] وإذن فلتدفن تحت أقدام المسلمين بقايا تلك المآثر الجاهلية العتيقة العفنة، من التفاخر بالآباء والأجداد، والتباهي بالقومية والقبلية والعصبيات، والاعتداد بفوارق الشكل واللغة والأنساب، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب.

لقد طويت منذ اللحظة جاهلية قريش، فلتطو معها سائر عاداتها وتقاليدها، ولتدفن في غياهب الماضي الذي أدبر، ولتغتسل قريش من بقية أدرانها لتنضم إلى القافلة وتسير مع الركب ... فإن الموعد عما قليل هناك.. عند إيوان كسرى، وداخل بلاد الروم، وإن مكة ستصبح بعد اليوم مشرق حضارة ومدنية جديدتين تلبس منهما الدنيا كلها حلة من السعادة الإنسانية الشاملة.

وهكذا دفنت فعلا في تلك الساعة بقايا المآثر الجاهلية تحت الأقدام، وبايعت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الإسلام، على أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وعلى أنه لا تعاظم إلا بحلّة الإسلام ولا مباهاة إلا بالتمسك بنظامه. وبناء على ذلك ملّكهم الله زمام العالم وأخضع لهم الدنيا.

<<  <   >  >>