للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن إسحاق: «ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمرّ به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا.

وقد قصّ الله خبرهم عليه صلّى الله عليه وسلم في قوله: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف ٤٦/ ٢٩] ، وقوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.. الآيات [الجن ٧٢/ ١] .

ثم عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم- ومعه زيد بن حارثة- يريد دخول مكة. فقال له زيد: «كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك؟ فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه» . ثم أرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره، فاستجاب مطعم لذلك. وعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى مكة» «١٨» .

[العبر والعظات:]

إذا تأملنا، في هذه الهجرة التي قام بها النبي صلّى الله عليه وسلم، وما انطوت عليه من العذاب الواصب الذي رآه عليه الصلاة والسلام، ثم في شكل عودته إلى مكة، نستخلص الأمور التالية:

أولا: إن ما كان يلاقيه النبي عليه الصلاة والسلام من مختلف ألوان المحنة، لا سيما هذا الذي رآه في ذهابه إلى الطائف، إنما كان من جملة أعماله التبليغية للناس..

فكما أنه جاء يبلغنا العقيدة الصحيحة عن الكون وخالقه، وأحكام العبادات والأخلاق والمعاملات، كذلك جاء يبلغ المسلمين ما كلفهم الله به من واجب الصبر، ويبين لهم كيفية تطبيق الصبر والمصابرة اللذين أمر بهما في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا [آل عمران ٣/ ٢٠٠] .

ولقد علمنا النبي صلّى الله عليه وسلم القيام بالعبادات بالوسيلة التطبيقية، فقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقال: «خذوا عني مناسككم» . وبناء على هذا المبدأ نفسه قاسى أمرّ أنواع المحن في سبيل الدعوة ليقول بلسان حاله لجميع الدعاة من بعده: «اصبروا كما رأيتموني أصبر» . وليبين أن الصبر ومصارعة الشدائد من أهم مبادئ الإسلام التي بعث بها إلى الناس كافة.

وربما يتوهم من اطلع على ظاهر سيرة هجرته عليه الصلاة والسلام إلى الطائف، أنه صلّى الله عليه وسلم قد غلب على أمره هناك، وأن الضجر قد نال منه، وأنه ربما استعظم كل تلك المحن والمشاق التي أصابته، ولذلك توجه إلى الله بذلك الدعاء بعد أن اطمأن في بستان ابني ربيعة.


(١٨) طبقات ابن سعد: ١/ ١٩٦ وسيرة ابن هشام: ١/ ٣٨١

<<  <   >  >>