للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل من حكمة ذلك تهييء أسباب هجرة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، فسنجد أن لهذا الخبر الذي انتهى إلى سمع المشركين أثرا كبيرا في تضييقهم الأمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإجماعهم الرأي على قتله والتخلص منه.

ومهما يكن، فإن بيعة العقبة الثانية، كانت المقدمة الأولى لهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة.

إذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى المدينة

قال ابن سعد في طبقاته يروي عن عائشة رضي الله عنها: «لما صدر السبعون من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم طابت نفسه، فقد جعل الله له منعة وقوما أهل حرب وعدة ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيّقوا على أصحابه وتعبّثوا بهم، ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى. فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: «قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها» فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحابه صلّى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الأسد ثم قدم بعده عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حشمة، فهي أول ظعينة «٤٦» قدمت المدينة ثم قدم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسالا فنزلوا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم وآسوهم» «٤٧» .

ولم يهاجر أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا متخفيا غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه وتنكب قوسه، وانتضى في يده أسهما، واختصر عنزته (عصاه) ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها فطاف في البيت سبعا متمكنا مطمئنا، ثم أتى المقام فصلى، ثم وقف فقال: «شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يثكل أمه أو يوتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي» .

قال علي: فما اتّبعه إلا قوم من المستضعفين علّمهم ما أرشدهم ثم مضى لوجهه «٤٨» .

وهكذا تتابع المسلمون في الهجرة إلى المدينة حتى لم يبق بمكة منهم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعلي، أو معذب محبوس، أو مريض أو ضعيف عن الخروج.


(٤٦) الظعينة هي المرأة التي تكون في الهودج.
(٤٧) طبقات ابن سعد ١/ ٢١٠ و ٢١١ وتاريخ الطبري ١/ ٣٦٧
(٤٨) أسد الغابة: ٤/ ٥٨

<<  <   >  >>