وفي غمرة ما كان يلاقيه النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من العذاب والإيذاء وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول وفد من خارج مكة لفهم شيء عن الإسلام. وكانوا بضعة وثلاثين رجلا من نصارى الحبشة جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب لدى عودته إلى مكة. فلما جلسوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم واطّلعوا على صفاته وأحواله وسمعوا ما تلي عليهم من القرآن، آمنوا كلهم، فلما علم بذلك أبو جهل أقبل إليهم قائلا:
«ما رأينا ركبا أحمق منكم! .. أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا» .
يجب أن يسترعي انتباهنا من خبر هذا الوفد أمران اثنان:
أولا: في قدوم هذا الوفد إلى مكة للقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتعرف على الإسلام، في غمرة ما كان المسلمون يعانونه من عذاب وإيذاء ومقاطعة وتضييق، دلالة باهرة على أن ما قد يلاقيه أرباب الدعوة الإسلامية في طريقهم من الآلام والمصائب لا يعني بحال ما الخيبة أو الإخفاق، ولا يستلزم الضعف أو التخاذل أو اليأس. بل العذاب كما قلنا طريق لابد من سلوكها للوصول إلى النجاح والنصر. لقد جاء هذا الوفد، وكانوا يزيدون على ثلاثين رجلا من النصارى، وقيل بل كانوا يزيدون على أربعين رجلا، جاؤوا يمخرون عباب البحر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ليعلنوا الولاء للدعوة الجديدة، وليعلنوا بلسان الحال أن أعداء الدعوة الإسلامية لن يستطيعوا- مهما ضيقوا عليها ومهما عذبوا وآذوا أربابها ومهما قاطعوهم وائتمروا بهم- أن يمنعوها من أن تؤتي ثمارها أو أن يحبسوها عن الانتشار في مشارق الأرض ومغاربها.
وكأنما قد علم أبو جهل بهذه الحقيقة فتجلت آثارها على نفسه ولسانه في الكلمات الحاقدة التي واجه بها أفراد ذاك الوفد. ولكن ما عساه يصنع؟ إن كل ما يستطيع هو وأمثاله أن يصنعوه،
(١٤) رواه ابن إسحاق ومقاتل، والطبراني عن سعيد بن جبير. وانظر ابن كثير والقرطبي والنيسابوري عند تفسير هاتين الآيتين.