إنزال مزيد من التعذيب والإيذاء بالمسلمين. أما أن لا تبلغ الدعوة مداها وأن لا تؤتي ثمارها، فليس له إلى ذلك من سبيل.
ثانيا: ما هي نوعية الإيمان الذي آمنه أفراد هذا الوفد؟ هل هو إيمان من يخرج من ظلمات الكفر إلى النور؟
الواقع أن إيمانهم كان مجرد استمرار لإيمانهم السابق، ومجرد سلوك بمقتضى ما كانوا يتمسكون به من عقيدة ودين. فقد كانوا (على حد تعبير رواة السيرة) أهل إنجيل يؤمنون به، ويسيرون على هديه. ولما كان الإنجيل يأمر باتباع الرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه السلام ويتحدث عن صفاته ومميزاته، فقد كان من مقتضى استمرار إيمانهم، الإيمان بهذا النبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
وإذن فإن إيمانهم به عليه الصلاة والسلام لم يكن عملية انتقال من دين إلى دين بسبب تفضيل أحدهما على الآخر، وإنما كان استمرارا لحقيقة الإيمان بعيسى عليه السلام وما أنزل إليه.
وهذا هو معنى قولهم فيما تحكيه عنهم الآية الشريفة: وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص ٢٨/ ٥٣] أي إنا كنا مسلمين ومؤمنين بهذا الذي يدعو إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، من قبل بعثته، لأنه مما يدعو الإنجيل إلى الإيمان به.
وهذا هو شأن كل من تمسك تمسكا حقيقيا بما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام أو بما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إذ الإيمان بالإنجيل والتوراة يستدعي الإيمان بالقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام. ولذلك أمر الله رسوله أن يكتفي من دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام بمجرد مطالبتهم بتطبيق ما في التوراة أو الإنجيل الذي يدّعون الإيمان به، فقال جلّ جلاله: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة ٥/ ٦٨] .
وهذا يقتضي تأكيد ما بينّاه من أن الدين الحق واحد لم يتعدد، منذ خلق آدم عليه السلام إلى بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن كلمة (الأديان السماوية) التي يستعملها بعض الناس، كلمة لا معنى لها.
نعم، هناك شرائع سماوية متعددة وكل شريعة سماوية ناسخة للشريعة التي قبلها. ولكن ينبغي أن لا نخلط بين (الدين) الذي يطلق أوّل ما يطلق على العقيدة و (الشريعة) التي تطلق على الأحكام السلوكية المتعلقة بالعبادات أو المعاملات.