وأخيرا: كيف ندرس السّيرة النّبوية على ضوء ما قد ذكرناه:
من المعلوم أن محمدا صلّى الله عليه وسلم، عندما ظهر في الجزيرة العربية، قدّم نفسه إلى العالم على أنه نبي مرسل من قبل الله عزّ وجلّ إلى الناس كافة، ليؤكد لهم الحقيقة التي بعث بها الأنبياء الذين خلوا من قبل، وليحمّلهم المسؤوليات ذاتها التي حمّلها الأنبياء السابقون أقوامهم، موضحا أنه آخر نبيّ مرسل في سلسلة الرّسل الذين تعاقبوا مع الزمن، ثم زاد نفسه تعريفا لهم فأوضح أنه ليس إلا بشرا من الناس يسري عليه جميع سمات البشرية وأحكامها، ولكن الله ائتمنه- بوساطة الوحي- على تبليغ الناس رسالة تعرفهم بهوياتهم الحقيقية، وتنبههم إلى موقع هذه الحياة الدنيا من خارطة المملكة الإلهية زمانا ومكانا، وإلى مصيرهم الذي سيلقونه حتما بعد الموت، كما تلفت نظرهم إلى ضرورة انسجامهم في سلوكهم الاختياري مع هوياتهم التي لا مفرّ منها، أي أن عليهم أن يكونوا عبيدا لله بيقينهم وسلوكهم الاختياري، كما تحققت فيهم هذه العبودية بالواقع الاضطراري. ثم أكّد لهم بكل مناسبة أنه لا يملك أن يزيد أو ينقص أو يبدل شيئا من مضمون هذه الرسالة التي حمّله الله مسؤولية إبلاغها إلى الناس جميعا، بل أكّد البيان الإلهي ذاته هذه الحقيقة قائلا:
وإذن، فإن محمدا صلّى الله عليه وسلم لم يقدم نفسه إلى العالم زعيما سياسيا، أو قائدا وطنيا، أو رجل فكرة ومذهب، أو مصلحا اجتماعيا.. بل لم يتخذ لنفسه، خلال حياته كلها، أي سلوك قد يوحي بأنه يسعى سعيا ذاتيا إلى شيء من ذلك.
وإذا كان الأمر هكذا، فإن الذي يفرضه المنطق علينا، عندما نريد أن ندرس حياة رجل هذا شأنه، أن ندرس حياته العامة من خلال الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها، لنستجلي فيها دلائل الصدق أو عدمه على ما يقول! ..
وهذا يلزمنا، بلا ريب، أن ندرس جميع النواحي الشخصية والإنسانية في حياته، ولكن على أن نجعل من ذلك كله قبسا هاديا يكشف لنا ببرهان علمي وموضوعي عن حقيقة هذه الهوية التي قدّم نفسه إلى العالم على أساسها.
نعم، ربما كان مقبولا أن نزعم بأننا لسنا مضطرين أن نشغل أفكارنا وعقولنا بهذا الذي أراد محمد صلّى الله عليه وسلم أن يشغل الناس به من معاني النّبوة والرّسالة في شخصه، لو أن الأمر لم يكن متعلقا بمصيرنا، ولم يكن له من شأن بحريتنا وسلوكنا.
أما وإن القضية متعلقة بذواتنا، وتكشف- إن صحّ الأمر- عن واجبات في المعرفة والسلوك إن لم نسع إلى تحقيقها، وقعنا من ذلك في مغبة شقاء عظيم وهلاك وبيل، إذن فالمسألة أخطر من أن نتصور أنها لا تعنينا، أو أن نمرّ عليها معرضين عابثين! ..