ترى؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (أي جبريل أو الوحي) الذي نزل على موسى يا ليتني فيها جذعا (شابا قويا) ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.
واختلف في الزمن الذي فتر فيه الوحي فقيل ثلاث سنوات، وقيل أقل من ذلك، والراجح ما رواه البيهقي من أن المدة كانت ستة أشهر «٢٢» .
ثم روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه:
«بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، زملوني، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فحمي الوحي وتواتر» .
[العبر والعظات:]
حديث بدء الوحي هذا، هو الأساس الذي يترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته. وفهمه واليقين به هما المدخل الذي لا بدّ منه إلى اليقين بسائر ما جاء به النّبي صلّى الله عليه وسلم من إخبارات غيبية وأوامر تشريعية ذلك أن حقيقة (الوحي) هي الفيصل الوحيد بين الإنسان الذي يفكر من عنده ويشرع بواسطة رأيه وعقله، والإنسان الذي يبلغ عن ربّه دون أن يغيّر أو ينقص أو يزيد.
من أجل هذا يهتم محترفو التشكيك بالإسلام، بمعالجة موضوع الوحي في حياته صلّى الله عليه وسلم، ويبذلون جهدا فكريا شاقّا، في تكلّف وتمحل، من أجل التلبيس في حقيقته والخلط بينه وبين الإلهام، وحديث النفس، بل وحتى الصرع أيضا. وذلك لعلمهم بأن موضوع (الوحي) هو منبع يقين المسلمين وإيمانهم بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم من عند الله. فلئن أتيح تشكيكهم بحقيقته، أمكن تكفيرهم بكل ما قد يتفرع عنه من عقائد وأحكام، وأمكنهم أن يمهدوا لفكرة أن كل ما دعا إليه محمد صلّى الله عليه وسلم من المبادئ والأحكام التشريعية ليس إلا من تفكيره الذاتي.
من أجل هذه الغاية، أخذ محترفو الغزو الفكري، يحاولون تأويل ظاهرة الوحي وتحريفها عما يرويه لنا المؤرخون وتحدث به صحاح السّنة الشريفة، وإبعادها عن حقيقتها الظاهرة وراح كل منهم يسلك إلى ذلك ما يروق لخياله من فنون التصورات المتكلفة الغريبة.
فمن متصور بأن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يزل يفكر.. إلى أن تكونت في نفسه بطريقة