الكشف التدريجي المستمر عقيدة كان يراها الكفيلة بالقضاء على الوثنية، ومن مفضل على ذلك إشاعة القول بأنه صلّى الله عليه وسلم إنما تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، ومن قائل بأن الأمر ليس هذا ولا ذاك ولكن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان رجلا عصبيا أو مصابا بداء الصرع «٢٣» .
ونحن حينما ننظر إلى مثل هذه التمحلات العجيبة التي لا يرى العاقل مسوغا لها إلا التهرب من الإقرار بنبوته عليه الصلاة والسلام، ندرك في جلاء ووضوح الحكمة الإلهية الباهرة من بدء نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلم بهذه الطريقة التي استعرضناها الآن، في حديث الإمام البخاري.
لماذا رأى رسول الله جبريل بعيني رأسه لأول مرة، وقد كان بالإمكان أن يكون الوحي من وراء حجاب؟
لماذا قذف الله في قلبه عليه الصلاة والسلام الرعب منه والحيرة في فهم حقيقته، وقد كان ظاهر محبة الله لرسوله وحفظه له يقتضي أن يلقي السكينة في قلبه ويربط على فؤاده فلا يخاف ولا يرتعد؟ لماذا خشي على نفسه أن يكون هذا الذي تمثل له في الغار أتيا من الجن، ولم يرجح على ذلك أن يكون ملكا أمينا من عند الله؟
لماذا انفصل الوحي عنه بعد ذلك مدة طويلة، وجزع النّبي صلّى الله عليه وسلم بسبب ذلك جزعا عظيما حتى إنه كان يحاول- كما يروي الإمام البخاري- أن يتردى من شواهق الجبال؟
هذه أسئلة طبيعية بالنسبة للشكل الذي ابتدأ به الوحي، ولدى التفكير في أجوبتها نجدها تنطوي على حكمة باهرة، ألا وهي أن يجد المفكر الحر فيها الحقيقة الناصعة الواقية عن الوقوع في شرك محترفي الغزو الفكري والتأثر بأخيلتهم المتكلفة الباطلة.
لقد فوجئ محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيا داخليا مردّه إلى حديث النفس المجرد، وإنما هي استقبال وتلقّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات. وضمّ الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقّي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصوّر، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالا داخليا فقط.
ولقد داخله الخوف والرعب مما سمع ورأى، حتى إنه قطع خلوته في الغار وأسرع عائدا إلى البيت يرجف فؤاده، لكي يتضح لكل مفكر عاقل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن متشوفا للرسالة التي سيدعى إلى حملها وبثّها في العالم، وأن ظاهرة الوحي هذه لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر في باله، وإنما طرأت طروءا مثيرا على حياته، وفوجئ بها دون أي توقع