للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الدلالة الثانية: ونأخذ منها حقيقة العلاقة القائمة بين ما جاء به سيدنا محمد وسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام، فقد كان النجاشي على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وكان مخلصا وصادقا في نصرانيته. ولقد كان من مقتضى إخلاصه هذا أن لا يتحول عنها إلى ما يخالفها وأن لا ينتصر لمن تختلف عقيدتهم عما جاء به الإنجيل وما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام.

أي فلو صحت تقولات أولئك الذين يزعمون انتماءهم إلى عيسى بن مريم وتمسكهم بالإنجيل، من أن عيسى ابن الله تعالى وأنه ثالث ثلاثة، لتمسك النجاشي- الذي كان من أخلص الناس لنصرانيته- بذلك، ولردّ على المسلمين كلامهم وانتصر لرسل قريش فيما جاؤوا من أجله.

ولكنا رأينا النجاشي يعلق على ما سمعه من القرآن وترجمته لحياة عيسى بن مريم بقوله:

«إن هذا والذي جاء به عيسى بن مريم ليخرج من مشكاة واحدة» . يقول ذلك على مسمع من بطارقة وعلماء الكتاب الذين من حوله.

وهذا يؤكد ما هو بديهي الثبوت من أن الأنبياء كلهم إنما جاؤوا بعقيدة واحدة لم يختلفوا حولها بعضهم عن بعضهم قيد شعرة، ويؤكد لنا أن اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم ليس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا من عند أنفسهم كما قال الله تعالى.

الدلالة الثالثة: أنه يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء أكان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذ كان نصرانيا عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك «١٣» ، أم كان مشركا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة وكأبي طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول صلّى الله عليه وسلم مكة في حمايته عندما رجع من الطائف.

وهذا مشروط- بحكم البداهة- بأن لا يستلزم مثل هذه الحماية إضرارا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرا لبعض أحكام الدين، أو سكوتا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز للمسلم الدخول فيها. ودليل ذلك ما كان من موقفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما طلب منه أبو طالب أن يبقي على نفسه ولا يحمّله ما لا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمه وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه.


(١٣) كان النجاشي ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولما مات نعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم للصحابة ثم خرج بهم إلى المصلى فصلى عليه. رواه مسلم.

<<  <   >  >>