خلقها مضطربة في عقيدتها تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادي يغدو أقرب إلى الاضمحلال ومكتسباتها المادية أسرع إلى الزوال.
وقد تصادف أن تجد أمة تائهة في عقيدتها عن جادة الصواب منحطة في مستواها الخلقي والاجتماعي، وهي مع ذلك واقفة على قدميها من حيث القوة والسلطان المادي، ولكنها في الحقيقة والواقع تمر بسرعة نحو هاوية سحيقة. والسبب في أنك لا تحس بحركة هذا المرور وسرعته هو قصر عمر الإنسان أمام طول عمر التاريخ والأحقاب. ومثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ الساهرة لا عين الإنسان الغافل الساهي.
وقد تصادف أن تجد أمة تعرّت عن كل مقوماتها المادية من ثروة ووطن ومال في سبيل الحفاظ على العقيدة الصحيحة وفي سبيل بناء النظام الاجتماعي السليم، ولكن ما هي إلا فترة قصيرة حتى تجد أرباب هذه العقيدة الصحيحة وما يتبعها من الخلق والنظام الاجتماعي السليمين قد استحوذوا على وطنهم المسلوب ومالهم المغصوب وعادت إليهم قوتهم مضاعفة معززة.
وأنت لن تجد الصورة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة إلا في عقيدة الإسلام الذي هو دين الله لعباده في الأرض ولن تجد من نظام اجتماعي عادل سليم إلا في نظام الإسلام وهديه. ولذا فقد كان من أسس الدعوة إلى الإسلام التضحية بالمال والوطن والحياة في سبيله، فبذلك يضمن المسلمون لأنفسهم المال والوطن والحياة.
ومن أجل هذا شرع مبدأ الهجرة في الإسلام. فأشار الرسول صلّى الله عليه وسلم على أصحابه- بعد أن نالهم من أذى المشركين ما خشي عليهم معه الفتنة في الدين- بالهجرة والخروج من الوطن.
وأنت خبير أن هذه الهجرة نفسها ضرب غير يسير من ضروب العذاب والألم في سبيل الدين، فهي ليست في الحقيقة هربا من الأذى والراحة، بل هي تبديل للمحنة ريثما يأتي الفرج والنصر.
وأنت خبير أيضا أن مكة لم تكن إذ ذاك دار إسلام حتى يقال: فكيف ترك أولئك الصحابة دار الإسلام وفروا ابتغاء سلامة أرواحهم إلى بلاد كافرة؟ فمكة والحبشة وغيرهما كانت سواء إذ ذاك، وأيها كانت أعون للصحابي على ممارسة دينه والدعوة إليه، فهي أجدر بالإقامة فيها.
أما الهجرة من دار الإسلام فحكمها بين الوجوب والجواز والحرمة، أما الوجوب فيكون عند عدم تمكن المسلم من القيام بالشعائر الإسلامية فيها كالصلاة والصيام والأذان والحج.. وأما الجواز فيكون عندما يصيبه فيها بلاء يضيق به، فيجوز له أن يخرج منها إلى دار إسلامية أخرى. وأما الحرمة فتكون عندما تستلزم هجرته إهمال واجب من الواجبات الإسلامية لا يقوم به غيره «١٢» .
(١٢) انظر تفسير القرطبي ٥/ ٣٥ وأحكام القرآن لابن العربي ٢/ ٨٨٧