للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فماذا كان أول بند منها؟

يا سبحان الله ما أجلّ وأروع!. لكأنه صلّى الله عليه وسلم إنما كان يستلهم توصياته تلك من واقع المنزلقات التي سيتنكب فيها أقوام من أمته خلال الزمن تائهين وراء غيرهم ضائعين عن القبس الذي سيتركه بين أيديهم فلقد كان أول بند منها هو قوله: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا» .

ولقد كرر هذه التوصية نفسها مرة أخرى في خاتمة خطابه، وأكد ضرورة الاهتمام بها وذلك عندما قال: «تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة، فلا يحلّ لا مرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم. ألا هل بلغت؟» .

ونحن نقول:

أجل والله، لقد بلغت يا سيدي.. ولعلنا اليوم أولى من ينبغي أن يجيبك: اللهم لقد بلّغت! .. وإن كنا في ذلك إنما نسجل مسؤولية على أعناقنا قصرنا كل التقصير في القيام بحقها.

أما البند الثاني: فلم يكن مجرد توصية، ولكنه قبل ذلك قرار أعلن عنه للملأ كله..

لأولئك الذين كانوا من حوله، والأمم التي ستأتي من بعده.

وهذه هي صيغة القرار:

«ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدميّ موضوع! .. دماء الجاهلية موضوعة..

وربا الجاهلية موضوع..» .

فما المعنى الذي تتضمنه صيغة هذا القرار؟ .. إنه يقول: إن كل ما كانت الجاهلية تفخر وتتمسّك به من تقاليد العصبية والقبلية، وفوارق اللغة والأنساب والعرق، واستعباد الإنسان أخاه بأغلال الظلم والمراباة، قد بطل أمره ومات اعتباره، فهو اليوم جيفة منتنة غيبتها شريعة الله في باطن الأرض، وأصبح مكانها من حياة المسلم اليوم تحت موطئ الأقدام. إنه رجس ولّى، وعماهة أدبرت، وغاشية بادت.

فمنذا الذي يرجع بعد ذلك لينبش التراب عن الجيفة المنتنة فيعانقها؟ .. وأي عاقل يتقمم الأدران التي تخلص منها ليتمسح ثانية بها؟ .. وأيّ أبيّ يعمد إلى القيد الذي كسره البارحة وألقاه، ليصلحه ويعود فيتقيّد به اليوم؟! ..

أرجاس من تقاليد الجاهلية، أبعدها الرسول صلّى الله عليه وسلم عن منطلق الإنسانية وتقدمها الفكري والحضاري، وأعلن أنها قد عادت حثالة مدفونة تحت قدميه، كي يثبت للدنيا كلها ويسجل على مسمع القرون والأجيال، أنه ما من تائه يزعم التقدم الفكري إذ يعمد فينبش شيئا من هذا الدفين

<<  <   >  >>