والفرق بين عموم التشييد وخصوص الزخرفة والنقش واضح.
فالأول كما قلنا لا يترتب عليه وصف أو معنى يخل بالحكمة التي من أجلها شرع بناء المسجد أما الزخرفة والنقش فإن كلّا منهما يترتب عليه معنى يخل بالحكمة، إذ من شأنه صرف قلوب المصلين عن الخشوع والتدبر وشغلها بمظاهر الدنيا، على حين يقصد من الدخول في المسجد الهرب من التصورات الدنيوية وتفريغ البال من زينتها ومغرياتها.
وهذا ما نبه إليه عمر رضي الله عنه. فقد روى البخاري في صحيحه أنه أمر ببناء مسجد فقال:«أكنّ الناس من المطر وإياك أن تحمّر أو تصفّر، فتفتن الناس» .
وقد اختلف العلماء في كتابة آية من القرآن في قبلة المسجد هل هي داخلة في النقش الممنوع أم لا؟ يقول الزركشي في كتابه إعلام الساجد:
«ويكره أن يكتب في قبلة المسجد آية من القرآن أو شيئا منه، قال مالك، وجوزه بعض العلماء، وقال: لا بأس به، لما روي من فعل عثمان ذلك بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه»«٩» .
ومما ذكرناه يتبين لك خطأ ما يعمد إليه كثير ممن يهتمون بتعمير المساجد وتشييدها اليوم، حيث ينصرفون بكل جهودهم إلى التفنن في تزيينها ونقشها وإضفاء مختلف مظاهر الأبهة عليها، حتى أن الداخل إليها لا يكاد يستشعر أي معنى من ذل العبودية لله عز وجل، وإنما يستشعر ما ينطق به لسان حالها من الافتخار بما ارتقى إليه فن الهندسة المعمارية، وفنون الزخرفة العربية.
ومن أسوأ نتائج هذا التلاعب الشيطاني ببسطاء المسلمين، أن الفقراء لم يعودوا يستطيعون أن يتهربوا من مظاهر الإغراء الدنيوي إلى أي جهة، لقد كان في المساجد ما يعزي الفقير بفقره، ويخرجه من جو الدنيا وزخرفها إلى الآخرة وفضلها، فأصبحوا يجدون حتى في مظهر هذه المساجد ما يذكّرهم بزخارف الدنيا التي حرموها ويشعرهم بنكد الفقر وأوضاره.
فيالله، ما أسوأ ما وقع فيه المسلمون من هجران لحقائق إسلامهم وانشغال بمظاهر كاذبة ظاهرها الدين وباطنها الدنيا بكل ما فيها من شهوات وأهواء.