للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: بل يتعين أن تكون غزوة ذات الرقاع هذه قبلها، إذ ثبت في الصحيح أن جابرا رضي الله عنه استأذن الرسول إلى بيته في غزوة الخندق وأخبر امرأته بما رأى من جوع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفيه قصة الطعام الذي دعا إليه النّبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وفيه أنه صلّى الله عليه وسلم قال لزوجة جابر: «كلي هذا واهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة» . وثبت في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جابرا في غزوة ذات الرقاع: «هل تزوجت بعد؟ قال: نعم يا رسول الله» .. الحديث وقد مرّ مفصّلا. أي فلم يكن قد علم النّبي صلّى الله عليه وسلم بعد شيئا عن زواجه.

فهذا يدل دلالة واضحة على أن ذات الرقاع كانت قبل الأحزاب فضلا عن خيبر.

ولم أر من استدلّ بهذا على تأخر الأحزاب عن ذات الرقاع، ممن قال بذلك، ولا من أجاب عنه ممن قال بعكسه، ولكنه على كل حال، دليل يكاد يكون قاطعا على ما نقول.

أمّا، ما استدل به الحافظ ابن حجر من أنه صلّى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة الخوف في الأحزاب وصلاها قضاء فيجاب عنه بأنه ربما كان سبب تأخير الرسول صلّى الله عليه وسلم لها إذ ذاك، استمرار الرمي بين المشركين والمسلمين بحيث لم يدع مجالا للانصراف إلى الصلاة، وربما كان العدو في جهة القبلة وصلاة الخوف التي صليت في ذات الرقاع كان العدو فيها في غير جهة القبلة كما قد رأيت، أو ربما أخّرها لبيان مشروعية قضاء الفائتة كيفما كانت. كما يجاب عن استدلاله بحديث أبي موسى الأشعري بما ذكره كثير من علماء السّير والمغازي من أن أبا موسى الأشعري إنما قصد بها غزوة أخرى سميت هي أيضا بذات الرقاع. بدليل أنه قال عنها: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه» إلخ. وغزوة ذات الرقاع التي نتحدث عنها كان عدد المسلمين فيها أكثر من ذلك.

وقد حاول الحافظ ابن حجر رحمه الله أن يردّ على هذا الكلام ولكن ليس ثمة داع إلى ذلك، خصوصا وقد ثبت الدليل القاطع على ما ذهب إليه علماء المغازي، مما ذكرناه من حديث جابر في كل من الغزوتين.

هذا وسنفصّل الحديث عن تأخير النّبي عليه الصلاة والسلام الصلاة عن وقتها يوم الخندق وما يتعلق به من المسائل والأحكام، في مناسبته إن شاء الله.

ثم إن هذه الغزوة لم يشتبك فيها المسلمون مع أحد من المشركين بقتال، كما رأيت من استعراض خلاصتها، ولكنها مع ذلك تنطوي على مشاهد ذات دلالات هامة يجب دراستها والاعتبار بها. ولقد ذكرنا منها خمسة مشاهد هي خلاصة أحداثها، فلنذكر ما يمكن أن يفهم من كل واحد منها:

أولا: فيما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري في بيان سبب تسمية هذه الغزوة أو غيرها، كما قلنا، بذات الرقاع صورة واضحة عن مدى ما كان يتحمله أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تبليغ

<<  <   >  >>