للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحديث الذي ذكرناه في هذا صريح بجواز العزل. فقد قال لهم حينما استفتوه في ذلك:

«ما عليكم أن لا تفعلوا» ، (وفي رواية مسلم: لا عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) . أي ليس عليكم أن تتركوا العزل، لأن ما قد قدر الله واقع لا ريب فيه، فلا يمكن أن يمتنع المقدر بعملكم. وأصرح من هذا الحديث ما رواه الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنه قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» .

وقد ذهب جمهور الأئمة بناء على هذا إلى جواز ممارسة العزل، ولكنهم اشترطوا لذلك موافقة الزوجة، لما قد يكون من الضرر بها، غير أنه يكره ذلك إذا كان سببه خشية النفقة وقلة ذات اليد.

وخالف ابن حزم الجمهور، فذهب إلى حرمة العزل مطلقا، مستدلا بما رواه مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: «ذلك الوأد الخفي» ، واستدل بأحاديث أخرى كلها موقوفة على الصحابة. فمن ذلك ما رواه بسنده عن نافع أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال: «لو علمت أحدا من ولدي يعزل لنكلته» . ومنه ما رواه من طريق الحجاج بن المنهال أن علي بن أبي طالب كان يكره العزل.

وأجاب ابن حزم عن حديث جابر الذي استدل به الجمهور بأنه منسوخ «٦٢» .

وذكر ابن حجر في فتح الباري رأي ابن حزم هذا ثم قال: «وهذا معارض بحديثين أحدهما أخرجه الترمذي والنسائي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن كثير.. عن جابر قال: «كانت لنا جواري وكنا نعزل، فقالت اليهود: إن تلك الموؤودة الصغرى، فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم تستطع رده» ، قال: والحديث الثاني في النسائي من وجه آخر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة «٦٣» .

أقول: وواضح أن قول النبي صلّى الله عليه وسلم عن العزل: «الوأد الخفي» ، لا يعني التحريم، بل الأظهر أن يحمل كلامه هذا- على ضوء الأحاديث الثابتة الأخرى- على النهي التنزيهي كما ذهب إلى ذلك الجمهور.

ودعوى ابن حزم أن الأحاديث المبيحة للعزل منسوخة، يردّها ما رواه الستة خلا أبا داود من حديث جابر: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم والقرآن ينزل» . زاد مسلم: «فبلغ ذلك نبي الله صلّى الله عليه وسلم فلم ينهنا فلولا أن حكم إباحة العزل ظل مستمرا إلى وفاته صلّى الله عليه وسلم، لما قال جابر رضي الله عنه ذلك، ولأوضح آخر ما استقر عليه الحكم الشرعي» .


(٦٢) انظر المحلى لابن حزم: ١٠/ ٨٧
(٦٣) راجع فتح الباري: ٩/ ٢٤٥

<<  <   >  >>