للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإلا فمن أين جاءت هذه الريح العاصفة تعصف بمعسكر المشركين وحدهم، دون أن يشعر بها المسلمون إلى جانبهم؟! .. هي هناك تقلب قدورهم وتطير خيامهم وتقلع أوتادها، وتزلزل أفئدتهم بالرعب، وهي هنا ريح باردة رخاء، تنعش ولا تؤذي أحدا! ..

سادسا: لقد فاتت النبي صلّى الله عليه وسلم صلاة العصر كما قد رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلّاها قضاء بعدما غربت الشمس. وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته، أكثر من صلاة واحدة، صلّاها تباعا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها.

وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة. ولا ينقض هذه الدلالة ما ذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزا إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالا وركبانا عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ- على فرض صحته- ليس واردا على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الانشغال. أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخا لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضا، بل هي مسكوت عنها، فتبقى على مشروعيتها السابقة. على أن الذي يقتضيه الدليل القطعي، هو أن صلاة الخوف شرعت قبل هذه الغزوة كما مرّ تحقيق ذلك عند الحديث عن غزوة ذات الرقاع «٨٢» .

ومن أدلة هذه المشروعية أيضا ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال بعد منصرفه إلى المدينة من غزوة الأحزاب، لا يصلين أحد العصر (أو الظهر) إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم وقت الصلاة في الطريق فقال البعض: «لا نصلي حتى نأتيها» ، وقال بعضهم: «بل نصلي، لم يرد منا ذلك» . فصلاها الفريق الأول بعد وصولهم إلى بني قريظة قضاء.

وإذا ثبت وجوب قضاء المكتوبة بعد فواتها، فسيان أن يكون سبب الفوات نوما أو إهمالا أو تركا متعمدا، إذ لم يرد- بعد ثبوت الدليل العام على وجوب قضاء الفائتة عموما- أي دليل يخصص مشروعية القضاء ببعض أسباب التفويت دون بعضها الآخر، والذين تركوها في طريقهم إلى بني قريظة، لم يكونوا نائمين ولا ناسين. فمن الخطأ إذن أن تخصص مشروعية قضاء الفائتة المكتوبة- مع ذلك- بما عدا التفويت المتعمد، وهو أشبه ما يكون بمن يخصصها ببعض المكتوبات دون بعض بدون أي مخصص شرعي.

وربما توهم بعضهم أنه قد ثبت دليل يخصص عموم أدلة مشروعية القضاء، وهو المفهوم المخالف لحديث: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها» ، ولكن هذا وهم لا ينبغي أن يدخل على طالب علم متبصّر. فالمقصود بالحديث ليس هو أمر الناسي والنائم بقضاء الصلاة، دون غيرهما، ولكن المقصود التركيز على القيد، وهو «إذا ذكرها» وذلك للتنبيه إلى أنه لا يشترط لمن


(٨٢) انظر ص ١٩٥ من هذا الكتاب.

<<  <   >  >>