وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم محمدا! ..
وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.
ثم إنهم أرسلوا إليه سهيل بن عمرو ممثلا عنهم ليكتب بينهم وبين المسلمين كتابا بالصلح، فلما جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: هات أكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا النّبي صلّى الله عليه وسلم الكاتب (وكان الكاتب عليا رضي الله عنه- فيما رواه مسلم) فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: أكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أما «الرحمن» فو الله ما أدري ما هي، ولكن أكتب باسمك اللهم، فقال المسلمون:
والله لا نكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلم: أكتب باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد الله» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني! .. اكتب محمد بن عبد الله. (وفي رواية مسلم: فأمر عليا أن يمحوها، فقال عليّ لا والله لا أمحوها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها) ، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلم: على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام القادم وليس مع المسلمين إلا السيوف في قرابها. فكتب.
فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، ومن جاء منكم لم نرده عليكم، فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! (والتفتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسألونه: أنكتب هذا يا رسول الله؟! قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا)«٥» .
وكانت مدة الصلح بناء على هذه الشروط- على ما رواه ابن إسحاق وابن سعد والحاكم- عشر سنين لا إسلال فيها ولا إغلال (أي لا سرقة ولا خيانة) وأنه من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا:«نحن في عقد محمد وعهده» . وتواثبت بنو بكر فقالوا:«نحن في عقد قريش وعهدهم» .
ولما فرغ من الصلح والكتابة، أشهد على الكتاب رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين.
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: «فأتيت نبي الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألست على حق وعدونا على باطل؟ قال: بلى، قلت: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قلت: فلماذا نعطي الدنيّة في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. فلم
(٥) ما بين القوسين تفصيل لرواية مسلم. والحديث بطوله من لفظ البخاري مع زيادات لمسلم.