قد بلغوا ما لا يقل عن خمسين ضعفا لعدد المسلمين! ..
وهي نسبة إذا ما تصورتها، تجعل رقعة الجيش الإسلامي، أمام حشود الروم والمشركين، أشبه ما تكون بساقية ماء صغيرة بالنسبة إلى بحر خضم مائج، هذا إلى ما كان قد جهز به جيش الأعداء من العدة والذخيرة والسلاح ومظاهر الأبهة والبذخ، على حين أن المسلمين كانوا يعانون من ذلك القلة والفقر! ..
ومكان الدهشة في الأمر، أن تجد المسلمين بعد هذا كله- وهم سرية ليس فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم- مقبلين غير مدبرين، لا يقيمون لكل هذه الحشود الهائلة أمامهم وزنا، مع أنها- فيما يبدو ويظهر- لو التفّت من حولهم وطوقتهم من جهاتهم، لانقلبوا إلى ما يشبه نواة صغيرة في جوف قطعة أرض سوداء! ..
ثم إن مكان الدهشة بعد ذلك، أن يصمد المسلمون لقتال هذا اليمّ المتلاطم. يقتل أميرهم الأول، ثم الثاني، فالثالث، وهم يقتحمون أبواب الشهادة في نشوة بالغة وإقبال عجيب، حتى يدخل الرعب الإلهي في أفئدة كثير من المشركين، دون أن يكون له سبب ظاهر، فينكشفون عن مواقعهم ويدبر منهم الكثير، وتقتل منهم خلائق لا تكاد تحصى! ..
ولكن الدهشة كلها تزول، والعجب ينتهي، إذا تذكرنا ما يفعله الإيمان بالله، والاعتماد عليه، واليقين بوعده.
بل إن المدهش بالنسبة للمسلمين- إذا كانوا مسلمين- أن لا يكونوا كذلك والعجيب فيهم حقا، أن يكونوا مسلمين ثم يكون لأرقام العدد والعدّة حساب مع ذلك في أفكارهم، إلى جانب ما وعد الله به من نصر وتأييد، أو جنة ونعيم خالدين! .. فالمسلمون- كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه- لا يقاتلون بعدد ولا قوة، ولا كثرة، وإنما يقاتلون بهذا الدين الذي أكرمهم الله به.
ثم إن هذه الغزوة، تنطوي، على عظات ودلالات باهرة كثيرة، نذكر منها ما يلي:
أولا: دلت توصية النبي صلّى الله عليه وسلم، على أنه يجوز للخليفة أو رئيس المسلمين أن يعلق إمارة أحد الناس بشرط وأن يولّي المسلمين عدة أمراء بالترتيب، كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلم في تولية زيد ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة، قال العلماء:«والصحيح أنه إذا أمر الخليفة بذلك فإن ولاية الكل تنعقد، بوقت واحد، في الحال، ولكنها لا تنفذ إلا مرتبة»«٤٣» .
ثانيا: دلت توصية الرسول صلّى الله عليه وسلم أيضا، على مشروعية اجتهاد المسلمين في اختيار أميرهم، إذا غاب أميرهم، أو وكل إليهم الخليفة اختيار من يرون. وقال الطحاوي: «هذا أصل يؤخذ منه