أما اليونان فقد كانت غارقة في هوسات من خرافاتها وأساطيرها الكلامية التي منيت بها دون أن ترقى منها إلى ثمرة أو نتيجة مفيدة.
وأما الهند، فقد كانت كما قال عنها الأستاذ أبو الحسن الندوي: إنه قد اتفقت كلمة المؤلفين في تاريخها أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس عشر الميلادي، فقد ساهمت الهند مع جاراتها وشقيقاتها في التدهور الأخلاقي والاجتماعي «٦» .
هذا، وينبغي أن نعلم أن القدر المشترك الذي أوقع هذه الأمم المختلفة فيما وقعت فيه من انحلال واضطراب وشقاء، إنما هو الحضارة والمدنية اللتان تقومان على أساس من القيم المادية وحدها دون أن يكون ثمة مثل أعلى يقود هذه الحضارة والمدينة في سبيلهما المستقيم الصحيح. ذلك أن الحضارة بمختلف مقوماتها ومظاهرها ليست سوى وسيلة وسبب.. فإن عدم أهلها التفكير الصائب والمثل الأعلى الصحيح استحالت الحضارة في أيديهم إلى وسيلة للنزول بها إلى درك الشقاء والاضطراب، أما إن أوتي أهلها مقياسا من العقل الرشيد الذي قلما يأتي إلا بواسطة الدين والوحي الإلهي. فإن القيم الحضارية والمدنية كلها تصبح وسائل جميلة سهلة إلى السعادة التامة في مختلف أنواعها ومظاهرها.
أما الجزيرة العربية فقد كانت هادئة، بعيدة بل منعزلة عن مظاهر هذه الاضطرابات كلها. فلم يكن لدى أهلها من الترف والمدنية الفارسية ما يجعلهم يتفننون في خلق وسائل الانحلال وفلسفة مظاهر الإباحية والانحطاط الخلقي ووضعها في قوالب من الدين. ولم يكن لديهم من الطغيان العسكري الروماني ما يبسطون به أيديهم بالتسلط على أي رقعة من حولهم، ولم يؤتوا من ترف الفلسفة والجدل اليوناني ما يصبحون به فريسة للأساطير والخرافات.
كانت طبائعهم أشبه ما تكون بالمادة (الخام) التي لم تنصهر بعد في أي بوتقة محوّلة، فكانت تتراآى فيها الفطرة الإنسانية السليمة، والنزعة القوية إلى الاتجاهات الإنسانية الحميدة، كالوفاء والنجدة والكرم والإباء والعفة. إلا أنه كانت تعوزهم المعرفة التي تكشف لهم الطريق إلى كل ذلك. إذ كانوا يعيشون في ظلمة من الجهالة البسيطة والحالة الفطرية الأولى، فكان يغلب عليهم- بسبب ذلك- أن يضلوا الطريق إلى تلك القيم الإنسانية فيقتلوا الأولاد بدافع الشرف والعفة، ويتلفوا الأموال الضرورية بدافع الكرم، ويثيروا فيما بينهم المعارك بدافع الإباء والنجدة.
وهذه الحالة هي التي عبر الله عزّ وجلّ عنها بالضلال حينما وصفهم بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [سورة البقرة ٢/ ١٩٨] ، وهي صفة- إذا ما نسبت إلى حال الأمم الأخرى إذ ذاك-